الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحد من العالمين) (١)، واقتدى بهم المشركون فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم الآيات اقتراحا وتحكما، كقولهم: اجعل الصفا لنا ذهبا، وأحيي لنا قصيا، وسير جبالنا لتتسع مزارعنا، وائتنا بالملائكة إن كنت من الصادقين، وأنزل علينا كتابا نقرؤه، فأنزل الله تعالى ردا عليهم: ﴿ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا﴾ (٢)، وقال ﴿ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين﴾ (٣) فجعل الله تعالى لرحمته بهم الآية الباقية مدة الدنيا له صلى الله عليه وسلم القرآن المعجز، وتحدي به أرباب اللغة واللسان أن يأتوا بمثله أو بسورة أو بآية مثله، فباؤا بالعجز عن معارضته مع تمكينه من أصناف الكلام نظما ونثرا ورجزا وسجعا، وكأن القرآن معجزة له صلى الله عليه وسلم كإبراء الأكمه وإحياء الموتى لعيسى عليه السلام مع تقدم قومه بصناعة الطب، وكقلب العصا حية لموسى وفلق البحر مع تمكن قوم فرعون وحذقهم بالسحر.
فكان من رحمة الله بهذه الأمة أن جعل أظهر دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن الذي يعلم صدقه بالاستدلال الذي تعرض فيه الشبهة والشكوك، لكنه لا يستأصل القوم المنكرون له استؤصل قوم صالح لما كفروا بالناقة، وقوم موسى بانفلاق البحر، وتلقف العصا حبالهم وعصيهم.
وإلى هذا المعنى يرجع قوله تعالى: ﴿وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا﴾ (٤)، المعنى: أن إرادتنا لاستبقاء المقترحين للإيمان منعا من إرسال الآيات إلا التي اقترحوها بها، لعلمنا بأنا نخرج من أصلابهم من يؤمن، وإن من سبق له منا الرحمة بالإيمان فقال تعالى: ﴿أولم يكفهم إنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى﴾ (5)، فدعاهم إلى التفكر والتذكر في القرآن الذي هو من