ينافي الدعوة إلى تدبر ما في الكون والحث على استعمال العقل، وهو ما طفحت به كثير من الآيات والأحاديث، لأن طبيعة التدبر واستعمال الفكر تدعو إلى اختلاف الرأي.
فالإختلاف المنهي عنه هو الإختلاف الذي يدعو إلى التفرقة وتشتيت كلمة الأمة، أي الإختلاف الذي يستغل عاطفيا لتفرقة الشعوب لا الإختلاف الذي يدعو إليه البحث الموضوعي وهو من أسباب الألفة والتعاطف بين أربابه، ففي الاستدلال خلط بين نوعي الإختلاف.
ومع التغافل عن هذه الناحية فإن دعواه بأن رعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه فهو سبب الإتفاق - لا أعرف لها وجها، لأن المصالح الحقيقية التي يتطابق عليها العقلاء محدودة جدا، وما عداها كلها موضع خلاف بل هي نفسها موضع لخلاف كبير في مواقع تطبيقها كما سبق بيانه في مبحث العقل فكيف يكون النظر فيها موضعا لاتفاق الكلمة وبخاصة إذا وسعنا الأمر إلى عوالم الظنون بها والأوهام، وهل تكفي مواضع الإتفاق منها لإقامة شريعة إذا تجردنا عن النصوص.
وبهذا يتضح الجواب على ما أورده على نفسه من إشكال وأجاب عليه، فكون الإختلاف رحمة وسعة مما لا إشكال فيه أصلا إذا كان في حدود البحث الموضوعي، والذي يدل عليه كل ما يدل على وجوب المعرفة المستلزمة حتما للاختلاف من آيات وأحاديث، ومعارضتها بمفسدة الأخذ بالرخص لا تعتمد على أساس.
فالآخذون بالرخص إما أن يكونوا معتمدين على حجية كأن يكون هناك مرجع مستوف لشرائط التقليد يسيغ لهم ذلك، فالأخذ بها لا يشكل مفسدة وأصحابها معذورون، وإما أن لا يكونوا على حجة، وهؤلاء لا حساب لنا معهم لتمردهم على أصل الشريعة في عدم الركون في تصرفاتهم على أساس، وكونهم يستغلون الرخص لتبرير أعمالهم أمام الرأي العام فإنما هو من قبيل الخداع والتمويه، ولو لم تكن هناك رخص لارتكبوا هذه الأعمال والتمسوا لها مبررات غير هذه.