من عدا المذكورين من الثقلين الموصوفين بما ذكر من الضلال والإلحاد عن الحق ومحل الظرف الرفع على أنه مبتدأ إما باعتبار مضمونه أو بتقدير الموصوف وما بعده خبره كما مر في تفسير قوله تعالى ومن الناس الخ أي وبعض من خلقنا أو وبعض ممن خلقنا أمة أي طائفة كثيرة يهدون الناس ملتبسين بالحق أو يهدونهم بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة وبالحق يحكمون في الحكومات الجارية فيما بينهم ولا يجورون فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قرأها هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة الآية وعنه عليه الصلاة والسلام إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى وروي لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله وروي لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم ظاهرون وفيه من الدلالة على صحة الإجماع ما لا يخفى والاقتصار على نعتهم بهداية الناس للإيذان بأن اهتداءهم في أنفسهم أمر محقق غني عن التصريح به «والذين كذبوا بآياتنا» شروع في تحقيق الحق الذي به يهدى الهادون وبه بعدل العادلون وحمل الناس على الاهتداء به على وجه الترهيب ومحل الموصول الرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده من الجملة الاستقبالية وإضافة الآيات إلى نون العظمة لتشريفها واستعظام الإقدام على تكذيبها أي والذين كذبوا بآياتنا التي هي معيار الحق ومصداق الصدق والعدل «سنستدرجهم» أي نستدينهم البتة إلى الهلاك شيئا فشيئا والاستدراج استفعال من درج إما بمعنى صعد ثم اتسع فيه فاستعمل في كل نقل تدريجي سواء كان بطريق الصعود أو الهبوط أو الاستقامة وإما بمعنى مضى مشيا ضعيفا وإما بمعنى طوى والأول هو الأنسب بالمعنى المراد الذي هو النقل إلى أعلى درجات المهالك ليبلغ أقصى مراتب العقوبة والعذاب ثم استعير لطلب كل نقل تدريجي من حال إلى حال من الأحوال الملائمة للمنتقل الموافقة لهواه بحيث يزعم أن ذلك ترق في مراقي منافعه مع أنه في الحقيقة ترد في مهاوي مصارعه فاستدراجه سبحانه إياهم أن يواتر عليهم النعم مع انهماكهم في الغي فيحسبوا أنها لطف لهم منه تعالى فيزداد بطرا وطغيانا لكن لا على أن المطلوب تدرجهم في مراتب النعم بل هو تدرجهم في مدارج المعاصي إلى أن يحق عليهم كلمة العذاب على أفظع حال وأشنعها والأول وسيلة إليه وقوله تعالى «من حيث لا يعلمون» متعلق بمضمر وقع صفة لمصدر الفعل المذكور أي سنستدرجهم استدراجا كائنا من حيث لا يعلمون أنه كذلك بل يحسبون أنه أثرة من الله عز وجل وتقريب منه وقيل لا يعلمون ما يراد بهم «وأملي لهم» عطف على سنستدرجهم غير داخل في حكم السين لما أن الإملاء الذي هو عبارة عن الإمهال والإطالة ليس من الأمور التدريجية كالاستدراج الحاصل في نفسه شيئا فشيئا بل هو فعل يحصل دفعة وإنما الحاصل بطريق التدريج آثاره
(٢٩٧)