تنبيه [في أن معرفة مقامات الكلام لا تدرك إلا بالذوق] ذكر ابن أبي الحديد:
اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح، والرشيق ولم والرشق، والجلي والأجلى، والعلى والأعلى من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق، ولا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه، وهو بمنزلة جاريتين: إحداهما بيضاء مشربة حمرة، ودقيقة الشفتين، نقية الشعر، كحلاء العين، أسيلة الخد، دقيقة الأنف، معتدلة القامة. والأخرى دونها في هذه الصفات والمحسن، لكنها أحلى في العيون والقلوب منها، وأليق وأملح، ولا يدرى لأي سبب كان ذلك، لكنه بالذوق والمشاهدة يعرف، ولا يمكن تعليله، وهكذا الكلام، نعم يبقى الفرق بين الوصفين أن حسن الوجوه وملاحتها، وتفضيل بعضها يدركه كل من له عين صحيحة، وأما الكلام فلا يعرفه إلا بالذوق، وليس كل من اشتغل بالنحو أو باللغة أو بالفقه كان من أهل الذوق، وممن يصلح لانتقاد الكلام، وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر، وصارت لهم بذلك دربة وملكة تامة، فإلى أولئك ينبغي أن يرجع في معرفة الكلام، وفضل بعضه على بعض.