قوله تعالى: (وأنا اخترتك) أي اصطفيتك للرسالة. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم والكسائي " وأنا اخترتك ". وقرأ حمزة " وأنا اخترناك ". والمعنى واحد إلا أن " وأنا اخترتك " ها هنا أولى من جهتين: إحداهما أنها أشبه بالخط، والثانية أنها أولى بنسق الكلام، لقوله عز وجل: " يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك " وعلى هذا النسق جرت المخاطبة، قاله النحاس.
قوله تعالى: (فاستمع لما يوحى) فيه مسألة واحدة - قال ابن عطية: وحدثني أبي - رحمه الله - قال سمعت أبا الفضل الجوهري رحمه الله تعالى يقول: لما قيل لموسى صلوات الله وسلامه عليه: " استمع لما يوحى " وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شماله، وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع، وكان كل لباسه صوفا.
قلت: حسن الاستماع كما يجب قد مدح الله عليه فقال: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم (1) الله " [الزمر: 18] وذم على خلاف هذا الوصف فقال: " نحن أعلم بما يستمعون به " (2) الآية. فمدح المنصت لاستماع كلامه مع حضور العقل، وأمر عباده بذلك أدبا لهم، فقال: " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " (3) [الأعراف: 204] وقال ها هنا: " فاستمع لما يوحى " لان بذلك ينال الفهم عن الله تعالى. روى عن وهب بن منبه أنه قال: من أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر، والاصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها.
فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشئ سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم. وقال سفيان بن عيينة:
أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل ثم النشر، فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بنية صادقة على ما يحب الله أفهمه كما يحب، وجعل له في قلبه نورا.