ولما كان المقام في الآية الكريمة هذا المقام وكان ما حكاه الله سبحانه من كفر المنكرين وإنكار المشركين لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم من الحق الصريح وما أنزل إليه من كلام الله تعالى مع ما يتلوه من البينات والحجج مما لا ينبغي أن يذعن به لبعده طبعا بين تعالى لذلك وجها بعد وجه على سبيل الترجي فقال: (ولعلك تارك بعض ما يوحى إليك) الخ، (أم يقولون افتراه) الخ.
فكأنه قيل: من المستبعد أن تهديهم إلى الحق الواضح ويسمعوا منك كلامي ثم لا يستجيبوا دعوتك ويكفروا بالحق بعد وضوحه فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وغير داعيهم إليه ولذلك جبهوك بالانكار أم يقولون إن القرآن ليس من كلام الله بل هو افتراء افتريته على الله ولذلك لم يؤمنوا به. فإن كنت تركت بعض الوحي خوفا من اقتراحهم عليك الآيات فإنما أنت نذير وليس لك إلا ما شاء الله، وان يقولوا افتراه فقل لهم يأتوا بعشر سور مثله مفتريات (الخ).
ومما تقدم يظهر أن ايراد الكلام مورد الترجي والاحتمال لرعاية ما يقتضيه المقام من طبع الاستبعاد فالمقام مقام الاستبعاد ومقتضاه ذكر كل سبب محتمل التأثير في الحادثة المستبعدة، اعتبر ذلك في ملك ينتهى إليه تمرد بعض ضعفاء رعيته فيبعث بعض عماله إلى دعوتهم إلى السمع والطاعة ويكتب في ذلك كتابا يأمره أن يقرأه عليهم ويلومهم على تمردهم واستكبارهم على ما بهم من الضعف والذلة ولمولاهم من القوة والسطوة والعزة ثم يبلغ الملك أنهم ردوا على رسوله ما بلغهم من قبله، ويكتب إليه كتابا ثانيا يأمره بقراءته عليهم وإذا فيه: لعلك لم تقرأ كتابي عليهم مخافة أن يقترحوا عليك بما لا تقدر عليه أو أنهم زعموا أن الكتاب ليس من قبلي وإنما افتريته على افتراء فإن كان الأول فإنك رسول ليس عليك إلا البلاغ وان كان الثاني فإن الكتاب بخطى كتبته بيدي وختمت عليه بخاتمي ولا يقدر أحد غيري أن يقلدني في ذلك.
والتأمل في هذا المثال يعطى أن المقام فيما يتضمنه الكتاب الثاني من الخطاب مقام الاستبعاد وأن القصد من ذكر الاحتمالين ترك الابلاغ وزعم الافتراء ليس هو توبيخ الرسول جدا أو احتمال زعمهم الكذب والفرية جدا، وإنما ذكر الوجهان