الحسن قبيحا وبالعكس، أو يرى الحق باطلا وبالعكس جزافا بتصرف من الشيطان، فهذا هو الذي لا يجوز نسبته إليه تعالى، وأما ذهاب القوة المميزة وفساد حكمها تبعا لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء أسند إلى الطبيعة أو إلى الشيطان.
على أن استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب والآفة الدماغية أسباب قريبة ورائها الشيطان، كما أن أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيوب عليه السلام إذ قال: " أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " ص - 41، وإذ قال: " أني مسني الضر وأنت ارحم الراحمين " الأنبياء - 83، والضر هو المرض وله أسباب طبيعية ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان.
وهذا وما يشبهه، من الآراء المادية التي دبت في أذهان عدة من أهل البحث من حيث لم يشعروا بها حيث إن أصحاب المادة لما سمعوا الإلهيين يسندون الحوادث إلى الله سبحانه، أو يسندون بعضها إلى الروح أو الملك أو الشيطان اشتبه عليهم الامر فحسبوا أن ذلك إبطال للعلل الطبيعية وإقامة لما وراء الطبيعة مقامها، ولم يفقهوا ان المراد به تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل، وقد مرت الإشارة إلى ذلك في المباحث السابقة مرارا.
وخامسا: فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين: ان المراد بالتشبيه بيان حال آكلي الربا يوم القيامة وأنهم سيقومون عن قبورهم يوم القيامة كالصريع الذي يتخبطه الجنون. ووجه الفساد ان ظاهر الآية على ما بينا لا يساعد هذا المعنى، والرواية لا تجعل للآية ظهورا فيما ليست بظاهرة فيه، وإنما تبين حال آكل الربا يوم القيامة.
قال في تفسير المنار: وأما قيام آكل الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس فقد قال ابن عطية في تفسيره: المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة: قد جن.
أقول: وهذا هو المتبادر ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه وقالوا: ان المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث، وأن الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود بل روى الطبراني