وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده، ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وآله ما يدلك على مساوئ الدنيا وعيوبها، إذ جاع فيها مع خاصته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته، فلينظر ناظر بعقله: أكرم الله محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك أم أهانه! فإن قال: " أهانه " فقد كذب والله العظيم بالإفك العظيم، وإن قال: " أكرمه " فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له، وزواها عن أقرب الناس منه، فتأسى متأس بنبيه، واقتص أثره وولج مولجه، وإلا فلا يأمن الهلكة، فإن الله جعل محمدا صلى الله عليه وسلم علما للساعة، ومبشرا بالجنة، ومنذرا بالعقوبة، خرج من الدنيا خميصا، وورد الآخرة سليما، لم يضع حجرا على حجر، حتى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربه فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتبعه، وقائدا نطأ عقبه! والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك! فقلت: أعزب عنى، فعند الصباح يحمد القوم السرى.
* * * الشرح:
المقتص لأثره: المتبع له، ومنه قوله تعالى: ﴿وقالت لأخته قصيه﴾ (1).
وقضم الدنيا: تناول منها قدر الكفاف، وما تدعو إليه الضرورة من خشن العيشة وقال أبو ذر رحمه الله:
" يخضمون ونقضم، والموعد الله! " وأصل القضم، أكل الشئ اليابس بأطراف الأسنان، والخضم: أكل بكل الفم للأشياء الرطبة، وروى: " قصم " بالصاد، أي كسر.