وخلا الموضع الذي فيه يحيى فلم يبق معه إلا بضعة عشر رجلا منهم، فنهض عند ذلك فأخذ درقته وسيفه، واحتزم بمنديل، ثم تلقى القوم (1) في النفر الذين تخلفوا معه فرشقهم أصحاب كاشهم التركي بالسهام، حتى كثر فيهم الجراح، وجرح يحيى بأسهم ثلاثة في عضده اليمنى وساقه اليسرى، فلما رآه أصحابه جريحا، تفرقوا عنه ولم يعرف فيقصد له، فرجع حتى دخل بعض تلك السفن، وعبر به إلى الجانب الشرقي من النهر، وذلك وقت الضحى، وأثقلته الجراحات التي أصابته، فلما رأت الزنج شدة ما نزل به، اشتد جزعهم وضعفت قلوبهم، فتركوا القتال، وكانت همتهم النجاة بأنفسهم، وحاز أصحاب السلطان تلك الغنائم التي كانت في السفن في الجانب الغربي من النهر، وانفض الزنج بالجانب الشرقي عن يحيى، فجعلوا يتسللون بقية نهارهم بعد قتل ذريع فيهم، وأسر كثير، فلما أمسوا وأسدف الليل، طاروا على وجوههم. فلما رأى يحيى تفرق أصحابه ركب سميرية كانت هناك، وأقعد معه فيها متطببا، يقال له عباد (2)، وطمع في الخلاص إلى عسكر صاحب الزنج، فسار حتى قرب من فوهة النهر، فأبصر سميريات وشذايات لأصحاب السلطان في فوهة النهر، فخاف أن تعترض سميريته، وجزع من المرور بها، فعبر به الملاح إلى الجانب الغربي من النهر، فألقاه وطبيبه على الأرض في زرع هناك، فخرج يمشى وهو مثقل حتى ألقى نفسه في بعض تلك المواضع، فأقام هناك ليلته تلك، فلما أصبح نزفه الدم، ونهض عباد الطبيب (3) فجعل يمشى متشوفا أن يرى إنسانا، فرأى بعض أصحاب السلطان، فأشار لهم إلى موضع يحيى، فجاءوا، حتى وقفوا عليه فأخذوه، وانتهى خبره إلى [الخبيث] (4) صاحب الزنج فجزع عليه جزعا شديدا، وعظم عليه توجعه.
(١٥٧)