من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه، وزال عما قليل عنه.
كم من واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة قد صرعته، وذي أبهة قد جعلته حقيرا، وذي نخوة قد ردته ذليلا!
سلطانها دول، وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام، و أسبابها رمام. حيها بعرض موت وصحيحها بعرض سقم. ملكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وموفورها منكوب، وجارها محروب.
ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا، وأبقى آثارا، وأبعد آمالا، وأعد عديدا، وأكثف جنودا! تعبدوا للدنيا أي تعبد، وآثروها أي إيثار، ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ، ولا ظهر قاطع. فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم نفسا بفدية، أو أعانتهم بمعونة، أو أحسنت لهم صحبة! بل أرهقتهم بالفوادح، وأوهنتهم بالقوارع، وضعضعتهم بالنوائب، وعفرتهم للمناخر، ووطئتهم بالمناسم، وأعانت عليهم ريب المنون. فقد رأيتم تنكرها لمن دان لها، وآثرها وأخلد إليها، حين ظعنوا عنها لفراق الأبد.
وهل زودتهم إلا السغب، أو أحلتهم إلا الضنك، أو نورت لهم إلا الظلمة، أو أعقبتهم إلا الندامة!
أفهذه تؤثرون، أم إليها تطمئنون، أم عليها تحرصون!
فبئست الدار لمن لم يتهمها، ولم يكن فيها على وجل منها!
فاعلموا - وأنتم تعلمون - بأنكم تاركوها، وظاعنون عنها. واتعظوا فيها بالذين قالوا: ﴿من أشد منا قوة﴾ (1)، حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا