هذا هو الزهد الذي يدعو إليه الإمام عليه السلام في هذا القسم الوعظي من كلامه، وهو موقف يوازن بين حاجات الانسان الجسمية والروحية، وهو موقف يجعل من الانسان كائنا اجتماعيا ذا جدوى لمجتمعه، ينفعه ويغنيه.
ويجب أن نعي أن المتهالك على الدنيا، الفاقد للحس الأخلاقي، المجرد من الانسانية، غير الشاكر، وبعبارة وجيزة غير الزاهد، هو خطر على المجتمع وعالة عليه أكثر من خطر ذلك الزاهد الذي فهم الزهد فهما خاطئا فاتخذ من الدنيا موقفا سلبيا مرضيا.
لان غاية صنيع هذا انه لا يعمل، وانه يعيش عالة على أهله وذويه، أما ذاك فعمله انه يمتص دماء الفقراء بنشاطه الذي لا يعود على هؤلاء الفقراء في صورة خدمات اجتماعية.
ولا نريد أن ننكر أن هذا اللون من وعظ الامام يظهر الدنيا في صورة كالحة منفرة إلى حد بعيد، ولكن هذا لا يدل على رأي الامام في الدنيا بقدر ما يدل على أن معاصريه الذين توجه إليهم بهذا الخطاب كانوا مغرقين في الدنيا إغراقا خطرا دفعهم إلى الخيانة: خيانة مجتمعهم وكيانهم السياسي، ودفعهم إلى التناحر فيما بينهم، ودفعهم إلى عبادة أصنام اللحم: رؤساء القبائل والزعماء، فإنسان يمارس هذا اللون من الحياة لا يمكن انتشاله من واقعه لحظة يتملى فيها مصيره بعين بصيرة إلا بهذا اللون من التعبير والتصوير، وقديما قال علماء البلاغة: ان المخاطب كلما ازداد إغراقا في الانكار حسن من المتكلم أن يمعن في تأكيد ما يقول.
وهؤلاء الذين كان الامام يتوجه بخطابه إليهم كانوا على هذا الحال أو قريب منه، فقد بلغ من تزييفهم لواقع حياتهم أن خانوا مجتمعهم فتمالأوا مع معاوية وباعوه ضمائرهم بالمال، وأشعلوا في هذا المجتمع روح القبلية التي دفعت بهيئاته إلى أن يقف كل منها موقفا تناحريا ذا عواقب وخيمة.