وبين القرنين - الثامن عشر والتاسع عشر - ساهمت علوم أخرى غير الفلسفة في تأكيد هذه النظرية.
ومهما تكن حظوظ هذه العلوم من قوة التأثير وضعفها في صياغة هذه النظرية وإقرارها فلا مراء في أن علم النفس المعاصر من أعظم العلوم أثرا في تأكيدها.
فقد بدأ علم النفس عهده التجريبي في أواخر القرن التاسع عشر (1879) على يد فلهلهم فونت الذي أسس سيكولوجيا الاستبطان، والذي حاولت مدرسته إحلال كلمة (شعور) المرادفة للحس في العمليات النفسية محل كلمة (روح) التي هي إرث ديني وغير مدرك.
وبعدها تتابعت المدارس النفسية: السلوكية، التحليل النفسي، علم النفس التحليلي، علم النفس الفردي، الجشطلت، القصد. وكلها تتنكر للروح، ولأي قوة غيبية أخرى، وترد السلوك الانساني إلى إفرازات الغدد، وعمليات الجهازين الحشوي والعصبي، واللاوعي، والغرائز.
وقد بلغ التعصب لهذه العلوم ذروته في القرن التاسع عشر، ففيه استحوذ الغرور على العلماء المحدثين، وظنوا أنهم قد تمكنوا من اكتشاف جميع القوانين الميكانيكية التي تسير الكون، وذهبوا إلى أن كل دعوى يراد منها اثبات أن ثمة قوى غير مدركة تهيمن علينا، وتتحكم فينا هي دعوى خرافة ذهب زمنها - خرافة صنعها الانسان يوم كان أفق تفكيره غائما وضبابيا إلى حد يثير الاشفاق.
ولعل من الخير لنا أن نتبين الأساس الذي يقوم عليه إنكار الروح في الثقافة الحديثة.
* * * الميزة الكبرى للحضارة الحديثة التي هي معطى للثقافة الحديثة أنها حضارة