فقد رأينا أن طول الامل ينسي الآخرة، ونسيان الآخرة يدفع بالمرء إلى اتباع هواه، وعند ذلك يعود الانسان خطرا اجتماعيا، لان ذلك ينقلب به إلى حيوان ذي غرائز طاغية، لا كابح لها، تطلب المزيد من كل شئ.
فقصر الامل عبارة عن وعي الانسان لواقع حياته، وأن الموت مدركه الآن أو غدا. وهذا الوعي يمسك يده عن الظلم حين لا يستطيع أن يصل إلى أغراضه إلا عن طريق الظلم، ويسل من نفسه الشره والمطامع والاحقاد.
والشكر عند النعم، وهو الركيزة الثانية التي يقوم عليها الزهد، عبارة عن فعل الخير، وإسداء المعروف إلى الناس، فليس المراد من الشكر هنا الشكر باللسان، لان الشكر باللسان لا يقدم ولا يؤخر في رقي المجتمع وتقدمه. إن الشكر المراد هنا هو الشكر بالفعل. فهذا الذي يعرف الدنيا على واقعها زاهد فيها ولذلك فهو لا يمسك يده عن اصطناع المعروف لأنه يعي أن ما ينفقه في سبل الخير باق له عند الله وعند الناس. أما ما أمسك يده عليه فيصير إلى غيره ليتمتع به.
والورع عند المحارم وهو الدعامة الثالثة من دعائم الزهد نتيجة طبيعية لفهم الدنيا على واقعها، فإذا كانت الدنيا لا تستقر على حال، وكانت خاتمتها الموت، فلماذا نتهالك عليها على نحو يذهب بما فيها من بهجة، فتغدو (؟) سلسلة من القلق والتربص والخداع والآلام؟ لماذا لا نأخذ منها بقدر، مترقبين نهايتها سعيدة كانت أو شقية، فلئن كانت سعيدة فستنقضي ولماذا لا نقضيها على نحو أفضل، ولئن كانت شقية فستنقضي أيضا، ولماذا نزيدها شقاء وتعاسة؟.. حسبنا ما نلقى منها.
هذا هو الزهد.
فهل تجد فيه تنفيرا من الدنيا، وإقصاء عنها؟ لا، إنه الموقف الصحيح من