بايعوا وسلموا ذلك، والقوم سكوت لم يتكلموا شيئا حذر القتل، فوثب أناس من أهل الشام فقالوا: يا أمير المؤمنين! إن كان رابك منهم ريب فحل بيننا وبينهم حتى نضرب أعناقهم. فقال معاوية: سبحان الله ما أحل دماء قريش عندكم يا أهل الشام؟ لا أسمع لهم ذكرا بسوء فإنهم بايعوا وسلموا، وارتضوني فرضيت عنهم رضي الله عنهم، ثم ارتحل معاوية راجعا إلى مكة وقد أعطى الناس أعطياتهم، وأجزل العطاء، وأخرج إلى كل قبيلة جوائزها وأعطياتها، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء، فخرج عبد الله ابن عباس في أثره حتى لحقه بالروحاء فجلس ببابه فجعل معاوية يقول: من بالباب؟
فيقال: عبد الله بن عباس فلم يأذن لأحد، فلما استيقظ قال: من بالباب؟ فقيل: عبد الله بن عباس فدعا بدابته فأدخلت إليه ثم خرج راكبا فوثب إليه عبد الله بن عباس فأخذ بلجام البغلة ثم قال: أين تذهب؟ قال: إلى مكة. قال: فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا؟ فأوما إليه معاوية فقال: والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتى يبايع صاحبكم. قال ابن عباس: فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد، وأبى عبد الله بن عمر فأخرجت جائزة بني عدي، فما لنا إن أبى صاحبنا وقد أبى صاحب غيرنا.
فقال معاوية: لستم كغيركم، لا والله لا أعطيكم درهما حتى يبايع صاحبكم، فقال ابن عباس: أما والله لئن لم تفعل لألحقن بساحل من سواحل الشام ثم لأقولن ما تعلم، والله لأتركنهم عليك خوارج. فقال معاوية: لا بل أعطيكم جوائزكم، فبعث بها من الروحاء ومضى راجعا إلى الشام. الإمامة والسياسة 1: 156.
قال الأميني: إن المستشف لحقيقة الحال من أمر هذه البيعة الغاشمة جد عليم أنها تمت برواعد الارهاب، وبوارق التطميع، وعوامل البهت والافتراء، فيرى معاوية يتوعد هذا، ويقتل ذاك، ويولي آخر على المدن والأمصار ويجعلها طعمة له، ويدر من رضائخه على النفوس الواطئة ذوات الملكات الرذيلة، وفي القوم من لا يؤثر فيه شئ من ذلك كله، غير أنه لا رأي لمن لا يطاع، لكن إمام الهدى، وسبط النبوة، ورمز الشهادة والإباء لم يفتأ بعد ذلك كله مصحرا بالحقيقة، ومصارحا بالحق، وداحضا للباطل مع كل تلكم الحنادس المدلهمة، أصغت إليه أذن أم لا، وصغى إلى قيله أحد أو أعرض، فقام بواجب الموقف رافعا عقيرته بما تستدعيه الحالة، ويوجبه النظر في صالح المسلمين