الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن. ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا: لا، حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون (1).
وقد هذبته تلكم الأحوال وكهربته، فلم يسق لمغضبة على باطل، ولم يحده طيش إلى غاية، فهو إن قال فعن هدى، وإن حدث فعن الصادع الكريم صدقا، وإن جال ففي مستوى الحق، وإن صال فعلى الضلالة، وعرفه بذلك من عرفه من أول يومه، وكان معظما مبجلا لدى الصحابة وكانوا يحذرون خلافه والرد عليه ويعدونه حوبا قال أبو وائل: إن ابن مسعود رأى رجلا قد أسبل إزاره فقال: ارفع إزارك. فقال: و أنت يا ابن مسعود! فارفع إزارك. فقال: إني لست مثلك إن بساقي حموشة وأنا آدم الناس فبلغ ذلك عمر فضرب الرجل ويقول: أترد على ابن مسعود؟ (2).
وأخرج أبو عمر بن الاستيعاب 1: 372 بالإسناد عن علقمة قال: جاء رجل إلى عمر وهو بعرفات فقال: جئتك من الكوفة وتركت بها رجلا يحكي المصحف عن ظهر قلبه فغضب عمر غضبا شديدا وقال: ويحك ومن هو؟ قال عبد الله بن مسعود. قال: فذهب عنه ذلك الغضب وسكن وعاد إلى حاله وقال: والله ما أعلم من الناس أحدا هو أحق بذلك منه.
فلماذا يحرم هذا البدري العظيم عطاؤه سنين؟ ثم يأتيه من سامه سوء العذاب وقد خالجه الندم ولات حين مندم متظاهرا بالصلة فلا يقبلها ابن مسعود وهو في منصرم عمره، ويسأل ربه أن يأخذ له منه بحقه، ثم يتوجه إلى النعيم الخالد معرضا عن الحطام الزائل، موصيا بأن لا يصلي عليه من نال منه ذلك النيل الفجيع.
لماذا فعل به هذا؟ ولماذا شتم على رؤس الاشهاد؟ ولماذا أخرج من مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهانا عنفا، ولماذا ضرب به الأرض فدقت أضالعه؟ ولما بطشوا به بطش الجبارين؟.
كل ذلك لأنه امتنع عن أن يبيح للوليد بن عقبة الخالع الماجن من بيت مال