وكان في مقدم المهاجرين ما يناهز ستين رجلا، فلم يبق في مكة المعظمة من أسلم معه صلى الله عليه وآله إلا أمير المؤمنين وأبو بكر وكأن المدينة ليست بدار بني النجار وهم خؤولة النبي الأقدس.
وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن الذي اتخذ المدينة قاعدة ملكه، وعاصمة حكومته، ومعسكر نهضته، فبث فيها رجاله وخاصته من أهلها ومن المهاجرين فكانوا يرقبون مقدمه الشريف في كل حين حتى، إذا وافوه مقبلا عليهم استقبلوه بقضهم وقضيضهم وفيهم أهل البيعتين ومن تقدمه من المهاجرين وكلهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم، وإنه صلى الله عليه وآله مكث في قباء عند بني عمرو بن عوف أياما وليالي حتى أسس مسجده الشريف فيها، فعرفه كل من في قباء ممن لم يكن يعرفه قبل من رجال الأوس والخزرج، واتصل به كل من قدمها من المدينة فعرفوه جميعا، وقد صلى الجمعة في قباء وفي بطن الوادي وادي رانونا وائتم به من حضر المسلمين عامة.
وبقضاء من الطبيعة أن الناس عند التطلع إلى رؤيته صلى الله عليه وآله كان يومي إليه كل عارف، ويسأل عنه كل جاهل، ويتقدم المبايعون إلى التعرف به والتزلف إليه، فلا يبقى في المجتمع جاهل به حتى يسأل أبا بكر عنه في انتقاله من بني عمرو وبقوله: من هذا الغلام بين يديك يا أبا بكر؟!
فكأن القادم رجل عادي ما دوخ صيته الأقطار، ولم يره بشر من ذلك الجمع الحافل، ولم يحتفل به ذلك الاحتفال، ولا احتفى به تلك الحفاوة، وما صعدت ذوات الخدور على الاجاجير (1) وما هزجت الصبيان والولائد بقولهن.
طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا * ما دعا لله داعي أيها المبعوث فينا * جئت بالأمر المطاع وكأنه قدم في صورة منكرة بلا أي تقدمة إلى بلد لا يعرفه فيه أحد حتى خص السؤال عنه بأبي بكر فحسب.
ثم ما هذه التعمية في جواب أبي بكر بقوله: إنه يهديني السبيل يريد سبيل