فالأرض وسط العالم وهي محفوفة بكرة الماء، والماء محفوف بالهواء، والهواء بالنار، ثم هذه الأربعة بكرات الأفلاك إلى آخر العالم الجسماني، فهذه الأجسام كأنها صفوف واقفة على عتبة جلال الله تعالى، وأما الجواهر الروحانية الملكية فهي على اختلاف درجاتها وتباين صفاتها مشتركة في صفتين: أحدهما التأثير في عالم الأجسام بالتحريك والتصرف (1) وإليه الإشارة بقوله " فالزاجرات زجرا " فانا بينا أن المراد من هذا الزجر السوق والتحريك، والثاني الادراك والمعرفة والاستغراق في معرفة الله والثناء عليه، وإليه الإشارة بقوله تعالى " فالتاليات ذكرا " ولما كان الجسم أدنى منزلة من الأرواح المشتغلة بالتصرف في الجسمانيات وهي أدون منزلة من الأرواح المستغرقة في معرفة جلال الله المقبلة على تسبيح الله كما قال " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته " (2) لا جرم بدأ في المرتبة الأولى بذكر الأجسام، ثم ذكر الأرواح المدبرة لأجسام هذا العالم، ثم ذكر أعلى الدرجات وهي الأرواح المقدسة المتوجهة بكليتها إلى معرفة جلال الله والاستغراق في الثناء عليه، فهذه احتمالات خطرت بالبال، والعالم بأسرار كلام الله ليس إلا الله (3).
" فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون " قال البيضاوي: أمر باستفتائهم حيث جعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين في قولهم الملائكة بنات الله، وهؤلاء زادوا على الشرك ضلالات أخرى: التجسيم وتجويز الفناء على الله، فإن الولادة مخصوصة بالأجسام الكائنة الفاسدة، وتفضيل أنفسهم عليه على وجه القسمة حيث جعلوا أوضع الجنسين له، وأرفعهما لهم، واستهانتهم بالملائكة حيث أنثوهم، ولذلك كرر الله إنكار ذلك وإبطاله في كتابه مرارا، وجعله مما يكاد السماوات يتفطرن منه و تنشق الأرض وتخر الجبال هدا، والانكار ههنا مقصور على الأخيرين لاختصاص هذه الطائفة بهما، ولان فسادهما مما تدركه العامة بمقتضى طباعهم، حيث جعل