لا ينسى ما جرى هذا المجرى وإن بعد العهد وطال الزمان، ولهذا لا يجوز أن يتصرف أحدنا في بلد من البلدان وهو عاقل كامل فينسى مع بعد العهد جميع تصرفه المتقدم و سائر أحواله. وليس أيضا لتخلل الموت بين الحالين تأثير لأنه لو كان تخلل الموت يزيل الذكر لكان تخلل النوم والسكر والجنون والاغماء بين أحوال العقلاء يزيل ذكرهم لما مضى من أحوالهم; لان سائر ما عددناه مما ينفي العلوم يجري مجري الموت في هذا الباب، وليس لهم أن يقولوا: إذا جاز في العاقل الكامل أن ينسى ما كان عليه في حال الطفولية جاز ما ذكرنا، وذلك أنا إنما أوجبنا ذكر العقلاء لما ادعوه إذا كملت عقولهم من حيث جرى عليهم وهم كاملو العقل، ولو كانوا بصفة الأطفال في تلك الحال لم نوجب عليهم ما أوجبناه، على أن تجويز النسيان عليهم ينقض الغرض في الآية، و ذلك أن الله تعالى أخبر بأنه إنما قررهم وأشهدهم لئلا يدعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك، وسقوط الحجة عنهم فيه، فإذا جاز نسيانهم له عاد الامر إلى سقوط الحجة عنهم وزواله.
وإن كانوا على الصفة الثانية من فقد العلم وشرائط التكليف قبح خطابهم و تقريرهم وإشهادهم، وصار ذلك عبثا قبيحا يتعالى الله عنه.
فإن قيل: قد أبطلتم تأويل مخالفيكم فما تأويلها الصحيح عندكم؟
قلنا: في الآية وجهان: أحدهما أن يكون تعالى إنما عنى بها جماعة من ذرية بني آدم خلقهم وبلغهم وأكمل عقولهم وقررهم على ألسن رسله عليهم السلام بمعرفته وما يجب من طاعته، فأقروا بذلك وأشهدهم على أنفسهم به، لئلا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم، وإنما أتي من اشتبه عليه تأويل الآية من حيث ظن أن اسم الذرية لا يقع إلا على من لم يكن كاملا عاقلا، وليس الامر كما ظن لأنا نسمي جميع البشر بأنهم ذرية آدم، وإن دخل فيهم العقلاء الكاملون، وقد قال الله تعالى: " ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم و أزواجهم وذرياتهم " ولفظ الصالح لا يطلق إلا على من كان كاملا عاقلا، فإن استبعدوا تأويلنا وحملنا الآية على البالغين المكلفين فهذا جوابهم.