إنما ينفع نفسه لأنه بفعله يحصل النجاة لنفسه ويحصل الثواب لجسمه * وما كان أعم نفعا فهو أفضل لقوله عليه السلام خير الناس من ينفع الناس ولهذا كان الاشتغال بطلب العلم أفضل من التفرغ للعبادة لان منفعة ذلك أعم ولهذا كانت الامارة والسلطنة بالعدل أفضل من التخلي للعبادة كما اختاره الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم لان ذلك أعم نفعا والى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله العبادة عشرة أجزاء وقوله عليه السلام الجهاد عشرة أجزاء تسعة منها في طلب الحلال للانفاق على العيال والدليل عليه انه بالكسب يتمكن من أداء أنواع الطاعات من الجهاد والحج والصدقة وبر الوالدين وصلة الرحم والاحسان إلى الأقارب والأجانب وفى التفرغ للعبادة لا يتمكن الا من أداء بعض الأنواع كالصوم والصلاة وجه القول الآخر وهو الأصح أن الأنبياء والرسل ما اشتغلوا بالكسب في عامة الأوقات ولا يخفى على أحد ان اشتغالهم بالعبادة في عمرهم كان أكثر من اشتغالهم بالكسب ومعلوم انهم كانوا يختارون لأنفسهم أعلى الدرجات ولا شك ان أعلى مناهج الدين طريق المرسلين عليهم السلام وكذا الناس في العادة إذا أحرجهم أمر يحتاجون إلى دفعه عن أنفسهم يشتغلون بالعبادات لا بالكسب والناس إنما يتقربون إلى العباد دون المكتسبين والدليل عليه ان الاكتساب يصح من الكافر والمسلم جميعا فكيف يستقيم القول بتقديمه على مالا يصح الا من المؤمنين خاصة وهي العبادة والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الأعمال قال أحمزها أي أشقها على البدن وإنما أشار بهذا إلى أن المرء إنما ينال أعلى الدرجات بمنع النفس هواها قال الله تعالى ونهى النفس عن الهوى الآية * والاشتغال بهذه الصفة في الانتهاء والدوام في العبادات فاما الكسب ففيه بعض التعب في الابتداء ولكنه فيه قضاء الشهوة في الانتهاء وتحصيل مراد النفس فلا بد من القول بأن ما يكون بخلاف هوى النفس ابتداء وانتهاء فهو أفضل ولا يدخل في شئ مما ذكرنا النكاح فان الاشتغال بالنكاح أفضل عندنا من التخلي لعبادة الله تعالى وهذا المعنى موجود فيه لأنه إنما كان ذلك أفضل لما فيه من تكثير عبادة الله تعالى وأمة رسوله عليه السلام وتحقيق مباهاة رسول الله بهم وذلك لا يوجد هنا فكان التفرع للعبادة أفضل من الاشتغال بالكسب بعد ما يحصل مالا بد منه وهذه المسألة تنبنى على مسألة أخرى اختلف فيها العلماء رحمهم الله وهي ان صفة الفقر أعلى أم صفة الغنى * والمذهب عندنا ان صفة الفقر أعلي وقال بعض الفقهاء صفة الغنى أعلى وقد أشار محمد رحمه الله في كتاب
(٢٥٢)