للمدونة) ش: اعلم أن أصل المدونة سماع قاضى القيروان أسد بن الفرات عن عبد الرحمن ابن القاسم وهما معا من أصحاب مالك، وهو أول من عملها ورواها عنه وسأله عنها على أسئلة أهل العراق، وأجابه ابن القاسم بنص قول مالك مما سمع منه أو بلغه أو قاسه على قوله وأصله، فحملت عنه بالقيروان وكانت تسمى الأسدية وكتاب أسد ومسائل ابن القاسم وكتبها عنه سحنون كذا قال في التنبيهات. وقال في المدارك: منعها أسد من سحنون فتلطف به سحنون حتى وصلت إليه فرحل سحنون بالأسدية إلى ابن القاسم فسمعها منه و أصلح فيها أشياء كثيرة رجع ابن القاسم عنها وجاء بها إلى القيروان، وهي في التأليف على ما كان عليه كتاب أسد مختلطة الأبواب غير مرتبة المسائل ولا مرسومة التراجم. وكتب ابن القاسم إلى أسد أن يعرض كتابه عليها ويصلحه منها فأنف من ذلك فيقال: إن ابن القاسم دعا أن لا يبارك فيها فهي مرفوضة إلى اليوم. ثم إن سحنون نظر فيها نظرا آخر وبوبها وطرح منها مسائل وأضاف الشكل إلى شكله وهذبها ورتبها ترتيب التصانيف، واحتج لمسائلها بالآثار من من روايته من موطأ ابن وهب وغيره، وألحق فيها من خلاف كبار أصحاب مالك ما اختاره، فعل ذلك بكتب منها وبيعت منها كتب على حالها مختلطة مات قبل أن ينظر فيها، فلأجل ذلك تسمى المدونة والمختلطة وهي التي تسمى بالأم. ثم إن الناس اختصروها فاختصرها ابن أبي زيد وابن أبي زمنين وغيرهم، ثم أبو سعيد البراذعي ويسمى اختصاره بالتهذيب، واشتغل الناس به حتى صار كثير من الناس يطلقون المدونة عليه، واختصر ابن عطاء الله تهذيب البراذعي. والمدونة أشرف ما ألف في الفقه من الدواوين وهي أصل المذهب وعمدته، وذكر القاضي عياض في المدارك في ترجمة أسد بن الفرات عن سحنون أنه كان يقول: عليكم بالمدونة فإنها كلام رجل صالح وروايته أفرغ الرجال فيها عقولهم وشرحوها وبينوها، وكان يقول: ما اعتكف رجل على المدونة ودراستها إلا عرف ذلك في ورعه وزهده، وما عداها أحد إلى غيرها إلا عرف ذلك فيه، وكان يقول: إنما المدونة من العلم بمنزلة أم القرآن من القرآن تجزئ في الصلاة عن غيرها ولا يجزئ غيرها عنها، كذا نقل عن سحنون في ترجمة أسد بن الفرات، ونقله في شرحه لا بن الحاجب والمصنف في التوضيح وكثير من أهل المذهب عن ابن رشد. ونقل أبو الحسن عن ابن يونس قال: يروى ما بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك وبعده مدونة سحنون انتهى. وذلك أنه تداولها أفكار أربعة من المجتهدين: مالك وابن القاسم وأسد وسحنون. وقول المصنف ب " فيها " يريد بلفظه أحد جزأيها ضمير مؤنث غائب، إما ملفوظ به نحو " منها " و " مظهرها " أو مستترا نحو " رويت " و " حملت " و " قيدت "، وأعاد عليها ضمير الغائب وإن لم يتقدم لها ذكر لشهرتها عند أهل المذهب. واعلم أنه رحمه الله تارة يشير إلى الأم وتارة إلى التهذيب. قال البساطي: والظاهر أنه كان عنده أجزاء من الأم دون الكل، ثم إنه رحمه الله إنما يأتي بها غالبا لكون ما فيها مخالفا لما رجحه ولإشكال ما فيها.
(٤٧)