المسجد ويشهد الصلاة والجنائز ويعود المرضى ويقضى الحقوق ويجيب الدعوة ثم ترك الجلوس في المسجد فكان يصلى وينصرف، ثم ترك عيادة المرضى وشهود الجنائز فكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله فلم يكن يشهد الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا الجمعة ولا يأتي أحدا يعزيه ولا يقضى له حقا، فاحتمل الناس له ذلك حتى مات، وكان ربما قيل له في ذلك فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره. وقال في مختصر المدارك: ثم ترك عيادة المرضى وشهود الجنائز وكان أصحابها يأتون إليه فيعزيهم. ثم قال في آخر كلامه: فاحتمل الناس له كل ذلك وكانوا أرغب فيه وأشد تعظيما، فلما حضرته الوفاة سئل عن تخلفه عن المسجد. وكان تخلف عنه سبع سنين قبل موته. فقال: لولا أنى في آخر يوم من الدنيا وأوله من الآخرة ما أخبرتكم، بي سلس بول فكرهت أن آتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكرهت أن أذكر علتي فأشكو ربى. وقيل: كان اعتراه فتق من الضرب الذي ضربه فكانت الريح تخرج منه فقال: إني أوذي المسجد والناس.
واختلف فيمن ضربه وفي سبب ضربه، فالأشهر أن جعفر بن سليمان هو الذي ضربه في ولايته والأولى بالمدينة. وأما سببه فقيل: إن أبا جعفر نهاه عن حديث " ليس على مستكره طلاق " ثم دس إليه من سأله فحدث به على رؤوس الناس. وقيل: إن الذي نهاه هو جعفر بن سليمان. وقيل: إنه سعى به إلى جعفر. وقيل له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم بشئ. وقيل: إنه أفتى عند قيام محمد بن عبد الله العلوي بأن بيعة أبى جعفر لا تلزم لأنها على الإكراه، على هذا أكثر الرواة. وقال ابن بكير: إنما ضرب في تقديمه عثمان على على فقيل لابن بكير: خالفت أصحابك. فقال: أنا أعلم من أصحابي. والأشهر أن ذلك كان في خلافة أبى جعفر، وقيل: في أيام الرشيد، والأول أصح. واختلف في مقدار ضربه من ثلاثين إلى مائة ومدت يداه حتى انخلعت كتفه، وبقى بعد ذلك مطال اليدين لا يستطيع أن يرفعهما ولا أن يسوى رداءه. ولما حج المنصور أفاده من جعفر بن سليمان وأرسله ليقتص منه فقال: أعوذ بالله والله ما ارتفع منها سوط عن جسمي إلا وأنا أجعله في حل من ذاك الوقت لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقيل:
حمل مغشيا عليه فلما أفاق ودخل الناس عليه قال: أشهد كم إني جعلت ضاربي في حل، ثم قال في اليوم الثاني: قد تخوفت أن أموت أمس فألقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأستحي منه بأن يدخل بعض آله النار بسببي فما كان إلا مدة حتى غضب المنصور على ضاربه فضربه ونيل منه أمر شديد.
وقال الداودي: سمعته يقول حين ضرب: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون. وكان ضربه في سنة ست وأربعين ومائة، وقيل: سنة سبع وأربعين. قال مالك: ما كان على أشد يوم ضربت من شعر كان في صدري وكان في إزاري خرق ظهرت منه فخذي فجعلت بيدي أستجدي الإزار ولا أترك على شعرا. وكان يقول: ضربت فيما ضرب فيه محمد بن المنكدر وربيعة وابن المسيب. ويذكر قول عمر بن عبد العزيز: ما أغبط أحدا لم يصبه في هذا الأمر أذى. قال