أصلح بينهما، ولم يمض عنهما حتى يحابا، ولم يسمع قولا قط من أحد استحسنه إلا سأل عن تفسيره وعمن أخذه، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين، فيرثي للقضاة ما ابتلوا به، ويرحم للملوك والسلاطين لغرتهم بالله وطمأنينتهم في ذلك، ويعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه ويجاهد به هواه ويحترز به من الشيطان.
فكان يداوي قلبه بالفكر، ويداوي نفسه بالعبر، وكان لا يظعن إلا فيما ينفعه، فبذلك أوتي الحكمة ومنح العصمة، فإن الله تبارك وتعالى أمر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار وهدأت العيون بالقائلة، فنادوا لقمان حيث يسمع ولا يراهم، فقالوا: يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس؟ فقال لقمان: إن أمرني الله بذلك فالسمع والطاعة لانه إن فعل بي ذلك أعانني عليه وعلمني وعصمني، وإن هو خيرني قبلت العافية، فقالت الملائكة: يا لقمان، لم قلت ذلك؟ قال:
لان الحكم بين الناس من أشد المنازل من الدين وأكثرها فتنا وبلاء ما يخذل ولا يعان ويغشاه الظلم من كل مكان، وصاحبه فيه بين أمرين، إن أصاب فيه الحق فبالحري أن يسلم، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلا وضعيفا كان أهون عليه في المعاد أن يكون فيه حكما سريا شريفا، ومن اختار الدنيا على الآخرة يخسرهما كلتيهما، تزول هذه ولا تدرك تلك.
قال: فتعجبت الملائكة من حكمته واستحسن الرحمن منطقه، فلما أمسى وأخذ مضجعه من الليل أنزل الله عليه الحكمة فغشاه بها من قرنه إلى قدمه وهو نائم، وغطاه بالحكمة غطاء فاستيقظ وهو أحكم الناس في