...
* (.. قال فرعون: وما رب العالمين؟! قال: رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين. قال لمن حوله: ألا تستمعون؟! قال ربكم، ورب آبائكم الأولين. قال: إن رسولكم الذي أرسل إليهم لمجنون) *. سورة الشعراء، الآيات 23 - 27.
فيلاحظ: إنه حاول في بادئ الأمر أنه يسفه ما جاء به موسى بطريقة إظهار التعجب والاستهجان. فلما رأى إصرار موسى على مواصلة الاعلان بما جاء به لجأ إلى اتهامه بالجنون. ولكنه أيضا وجد أن موسى يواصل بعزم ثابت، وإصرار أكيد، إعلانه المخيف لفرعون فالتجأ إلى استعمال أسلوب القهر والقمع، فقال لموسى: * (قال: لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) *. فواجهه موسى (ع) بإبطال كيده هذا، وجرده من هذا السلاح، حيث قال له: * (أولو جئتك بسلطان مبين) * فاضطره أمام الناس إلى الرضوخ لذلك فقال: * (فأت به إن كنت من الصادقين) * فأظهر موسى المعجزة التي جردته من سلاح المنطق والحجة. ولكنه مع ذلك لم يستسلم بل التجأ إلى سلاح آخر، يدلل على حنكته البالغة ودهائه العظيم وعلى درجة عالية من الذكاء، حيث نقل المعركة فورا من ساحته هذه إلى ساحة الآخرين، وأخرج نفسه عن دائرتها، وجعل من نفسه إنسانا غيورا على مصلحة الناس، يريد أن يدفع الشر عنهم، وأن يحفظ لهم مواقعهم فأظهر أن ما جاء به موسى (ع) لا يعنيه هو ولا يهدد موقعه، وإنما هو يستهدفهم دونه فالقضية إذن هي قضيتهم، فلا بد أن يبادر كل منهم لمواجهتها، وليست هي قضية يمكن التفريط في شأنها، ولا هي تسمح لهم باللامبالاة، أو التأجيل، أو التواكل، مستفيدا من طبيعة المعجزة عنصر التمويه عليهم والتشويه للحقيقة، حيث اعتبر إن انقلاب العصا إلى ثعبان وخروج اليد بيضاء، سحرا يريد موسى أن يتوسل به إلى إخراجهم من أرضهم، فهو قد حول المعجزة القاهرة إلى دليل له، يبطل به دعوى موسى التي جاءت المعجزة لإثباتها وتأكيدها، ثم ألقى الكرة في ملعبهم، وجعل القرار لهم. واستطاع من خلال ذلك أن يقتنص فرصة جديدة يستدرك بها شيئا من القوة لمواجهة موسى..
وهذا هو ما أوضحته الآيات التالية: (*)