فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل يا طال ما أكلوا دهرا وما شربوا * فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا فبكى المتوكل وأمر برفع الشراب وقال: يا أبا الحسن عليك دين؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار. فدفعها إليه ورده إلى بيته مكرما 1).
(١) قال الفاضل المعاصر الهادي حمو في " أضواء على الشيعة " ص ١٣٧ ط دار التركي:
١٠ - الإمام علي الهادي النقي (٢٥٤ ه - ٨٦٨ م):
هو أبو الحسن علي الهادي بن محمد الجواد تولى الإمامة كأبيه صغيرا مات عنه وهو ابن ست أو ثماني سنوات، وفي عهده تكهربت سياسة العباسيين ضد الشيعة نظرا لما كان يحدث إما من الاضطرابات السياسية المتبرقعة بالدعوة لآل البيت أو لما كان يكنه الخليفة المتوكل من بغض لعلي وذريته فأمر بهدم قبر الحسين وتسويته بالتراب وحرث مكانه المعروف وفي ذلك يقول ابن السكيت:
تالله إذا كانت أمية قد أتت * قتل ابن بنت نبيها مظلوما فلقد أتته بنو أبيه بمثله * فغدا لعمرك قبره مهدوما أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قتله فتتبعوه رميما كما أمر المتوكل يحيى بن هرثمة بالذهاب إلى المدينة حيث يحظى الإمام الهادي بالتبجيل والتكريم ففتش منزله وانتزعه من أحضان المدينة الحظية به إلى سامراء حيث الإقامة الجبرية هناك.
ومع ذلك فلم يستقر للمتوكل قرار حتى وجه إليه ذات ليلة كوكبة من جند الأتراك فهجموا عليه في إقامته على غفلة فوجدوه وحده في بيت مغلق وعليه مدرعة من شعر وعلى رأسه ملحفة من صوف وهو مستقبل القبلة يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد ليس بينه وبين الأرض بساط إلا الرمل، فأخذ على الصورة التي وجد عليها وحمل إلى المتوكل في جوف الليل فمثل بين يديه والمتوكل يستعمل الشراب وفي يده كأس. فلما رآه أعظمه وأجلسه إلى جانبه وقيل له: لم يكن في منزله شئ مما قيل عنه. فناوله المتوكل الكأس التي كانت بيده، فقال: يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط فأعفني، فأعفاه وقال له: أنشدني شعرا أستحسنه، قال: إني قليل الرواية للشعر، قال: لا بد أن تنشدني، فأنشده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل واستنزلوا بعد عز من مقامتهم * فأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا ناداهم صائح من بعد ما قبروا * أين الأسرة والتيجان والحلل أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الأستار والكلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل قد طال ما أكلوا دهرا وما شربوا * فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا فأشفق من حضر على الهادي وظن أن بادرة تبدر إليه من الخليفة لكن الخليفة بكى بكاء شديدا وبكى من حضر معه المجلس.
وثمة رواية شيعية عن هذا الموقف مع المتوكل وهي أنه كان في مجلسه عند مثول الإمام، الشاعر علي بن الجهم فسأله الخليفة: من أشعر الناس؟ فذكر ابن الجهم الشعراء في الجاهلية والاسلام. فسأل الإمام عن ذلك. فقال: أشعر الناس الحماني، حيث يقول:
لقد فارقتنا من قريش عصابة * بمط خدود وامتداد أصابع فلما تنازعنا المقال قضى لنا * عليهم بما نهوى نداء الصوامع ترانا سكوتا والشهيد بفضلنا * عليهم جهير الصوت في كل جامع فإن رسول الله أحمد جدنا * ونحن بنوه كالنجوم الطوالع فقال له المتوكل: ما نداء الصوامع يا أبا الحسن؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
ومهما كان من أمر هذه الروايات فهي كافية أن تعطينا صورة عن وجه الحياة الثانية التي تقابلها الحياة الرسمية للخلفاء العباسيين الذين كانوا يغرقون في الترف ونعيم العيش، ويأخذون مما عهد في مباذل الفرس وغيرهم من الأمم الأعجمية والتي عجت بها ساحة الحضارة العربية ببغداد.
ومنهم العلامة أبو الفلاح عبد الحي ابن العماد الحنبلي المتوفى سنة ١٠٨٩ في " الشذرات " ج ٢ ص ١٢٨ ط دار إحياء التراث العربي، بيروت، في وقايع سنة ٢٥٤:
وفيها أبو الحسن علي بن الجوادمحمد بن الرضا علي بن الكاظم موسى بن جعفرالصادق العلوي الحسيني المعروف بالهادي، كان فقيها إماما متعبدا، وهو أحد الأئمة الاثني عشر الذين تعتقد غلاة الشيعة عصمتهم كالأنبياء، سعي به إلى المتوكل وقيل له: إن في بيته سلاحا وعدة ويريد القيام فأمر من هجم عليه منزله، فوجده في بيت مغلق وعليه مدرعة من شعر يصلي ليس بينه وبين الأرض فراش، وهو يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فحمل إليه ووصف له حاله، فلما رآه عظمه وأجلسه إلى جنبه وناوله شرابا فقال: ما خامر لحمي ولا دمي فأعفني منه، فأعفاه وقال له: أنشدني شعرا. فأنشده أبياتا أبكاه بها، فأمر له بأربعة آلاف دينار ورده مكرما.
وإنما قيل العسكري لأنه سعى به المتوكل أحضره من المدينة وهي مولده وأقره بمدينة العسكري وهي سر من رأى، سميت بالعسكر لأن المعتصم حين بناها انتقل إليها بعسكره فسميت بذلك، وأقام بها صاحب الترجمة عشرين سنة فنسب إليها.
ومنهم الفاضل المعاصر الشيخ محمد الخضري بك المفتش بوزارة المعارف بمصر في " محاضرات تاريخ الأمم الاسلامية " ص 359 ط المكتبة التجارية الكبرى بمصر، قال:
وكان إمام الإمامية في عهده أبو الحسن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب سعى به إلى المتوكل فأقدمه من المدينة إلى سامراء التي كانت تعرف بالعسكر، فلقب بالعسكري. وقد ظل مقيما بها نحو عشرين سنة ومات بها.
ولما جاء سامراء لم تنقطع السعايات عنه، فقيل له: إن في منزله سلاحا وكتبا وغيرها من شيعته، فوجه إليه ليلا من هجم عليه منزله وهو غافل، فوجد في بيت وحده عليه مدرعة من شعر ولا بساط في البيت إلا الرمل والحصى، وعلى رأسه ملفة من صوف وهو يقرأ ويدعو، فحمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب، فأجلسه إلى جنبه وعرض عليه الكأس، فاستعفى فأعفاه، ثم قال له: أنشدني شعرا، فأنشده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم * فأودعوا حفرا يا بئسما نزلوا ناداهم صارخ من بعد ما قبروا * أين الأسرة والتيجان والحلل أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الأستار والكلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل قد طالما أكلوا دهرا وما شربوا * فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا وطالما عمروا دورا لتحصنهم * ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا وطالما كنزوا الأموال وادخروا * فخلفوها على الأعداء وارتحلوا وأضحت منازلهم قفرا معطلة * وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا فبكى المتوكل حتى بلت دموعه لحيته، ثم أمر برفع الشراب وأمر له بأربعة آلاف دينار يقضي بها دينه، ورده إلى منزله مكرما.