الرجلان الحق أن الاختلاف كان شديدا بين الإمام جعفر الصادق وبين الخليفة أبى جعفر المنصور: في طبيعتهما وطريقتهما وغاياتهما.
هذا صاحب سلطان. فيه شركاء متشاكسون، تركبه هموم الدنيا، وتلبس جلده شياطينها. يترافع لينحني الناس له، ويجمع دنياهم في قبضته. شحيح النفس منقبض اليد، " دوانيقي "، يحسب بالدرهم والدانق (1) تبدو منه صعقات السلطان عند الفزع. وتحوله مطامعه من الدماثة إلى الشراسة. فلا يطمئن له أحد. أقام دولته على أشلاء الأعداء، وفزع الأقرباء، وجماجم أهل البيت. في خزائنه!
أما الإمام فرجل سلم لكل رجل: يتواضع ليرفع الناس كلهم، ولا تستعبده الدنيا قيد أنملة. يعطى ولا يأخذ. ويحيى أنفس الناس، بالعطاء المسماح من العلم، والجاه، والمال. (ما قال لا قط إلا في تشهده). فهكذا كان أبوه وجده.
والحق كذلك أن المنصور - بنجاحه في إقامة أكبر دولة في التاريخ الوسيط - يعتبر واحدا من ثلاثة لا يعرف لهم التاريخ الإسلامي رابعا.
ولا ينزل بهم التاريخ العالمي عن أعظم المؤسسين للدول.
أولهم معاوية بن أبي سفيان، وثانيهم عبد الملك بن مروان. مصايرهم متشاكلة. ووسائلهم متشابهة، وخصامهم لأهل البيت أساس دولتهم.
ونجاحهم في دنيا السلطة مقطوع القرين:.
بدأوا علماء، وانتهوا ملوكا كالملوك الأعاجم! والإسلام فضل من الله، يسخر لخدمته من يشاء. ولو مال عن الجادة رجل، فإنما يخذل نفسه ولا يصيب الإسلام بسوء.