ولقد كان كله شجاعة فكر، وبراعة فقه، يوم استشاره عمر في غزو الفرس بنفسه وكرر " أخو النبي " نصحه في بلاغة معلمة وأسانيد تترى. لكنه لم يذكر (السابقة) لعمر كما صنع مع أبي بكر. فالصديق هو إمام (الاتباع) الذي بلغ به مراتبه. اما عمر فهو " يجتهد " ويتبع. وعند علي من (الاتباع) و (الاجتهاد) ما يروى الشيخين معا:
قال لعمر بين ما قال: " إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة. وهو دين الله الذي أظهره.. ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه. فإذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا. والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع. فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب. وأصلهم دونك نار الحرب.
إنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع من الفورات أهم إليك مما بين يديك. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولون هذا أصل العرب فإن قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك ومطمعهم فيك.. " فلنلاحظ. هذه الخطة المتعددة الغايات بالحركة الواحدة: أن يبقى قطبا للرحى، وان يستديرها بالعرب، وأن يجعلهم يحاربون العدو بدلا من الخليفة.
وأن يحميهم من تنازعهم ولم يكن قد مضى على توبة بعضهم من الردة الا شهور. ولنلاحظ ذلك الاحتياط في الحرب حتى لا يجد العدو الخليفة غرضا قريبا في متناولة يستميت في إصابته.
ولنلاحظ تشبيه الخليفة بنظام العقد الذي يمسكه أن ينتثر.
ولنلاحظ الوجازة، والنصاعة، والبلاغة " العلوية "، ومستواها في لسان العرب.
ولما قبل الصديق والفاروق نصيحته في الحالين وضعته النصيحتان في موضعه معهما ومن المسلمين - وهو في صدر شبابه - في الصدارة.
ولا ينال من هذه العبقرية في وضع الخطط، ما سيصيبه والمسلمين معه، يوم يستحبون الدعة، بعد ربع قرن عندما آلت إليه المقاليد، وجاء إلى الوجود جيل جديد، فعلت الفتن فيه أفاعيلها. فأتاحت لعلي بدلا من إنفاذ خططه،