وخففت راياته بعد أن كانت ملوية، وبعتاة أهل الأباطيل مطوية. وقد كان الشرك منذ أزمان في غاية الظهور، والباطل هو المعمول به والمشهور، فناسب أن يصرح بأذانه، ويشدى به على غاية إعلانه، ولما كانوا يشركون به سبحانه، ويتعبدونه بسواه، كان نسب الأمور البدائة بالتنبيه على تفرده بالكبرياء، وتوحده بالعلاء، فقال بادئا بالاسم الأعظم، الدال على الذات، المستجمع لجميع الكمالات: " الله " أي الملك الذي لا كف ء له ولا سمي، ولا ضد ولا نظير، وأتى بالخبر نكرة ليدل على إسناده إليه على الإطلاق، وأنه لا خفاء في انفراده بذلك، فقال: " أكبر " ولم يذكر متعلقا، ذهابا بالتعميم إلى أعلى الغايات وأنهى النهايات ولما كان قد طال ما قرر الشرك في الأذهان، وصال به أهل الطغيان، اقتضى الحال تأكيد ذلك، ولأجل هذا ثنى التكبير في الإقامة مع أنها فرادى.
" ولما كان المراد من جميع كلمات الأذان مجرد الإعلام بالوقت وبهذه المقاصد المراد بها نسخ ما عداه، قال مؤكدا من غير عطف لشئ من الجمل: " الله أكبر ". ولما كان الحال من جميع الأكوان شديد الاقتضاء، لم يذكر التأكيد لتطاول أزمان الشرك قال ملذذا لأسماع الموجودات، ومرويا لعطاش أكباد الكائنات: " الله أكبر "، ولما تم تقرير ذلك في الأذهان، وعلم علما تاما أن التوحيد قد علا، وقهر جميع الأديان، ارتقب كل سامع ما يقال بعده، فقال مبتدئا دورا جديدا من هذا الإعلام لمزيد التقرير عند جميع الأنام: " الله أكبر ".
" فلما علم أن ذلك إلى غير نهاية، ولا حد تقف عنده كل غاية، قال مترجما لما أنتجه، ملقنا لكل سامع ما وجب عليه من الجواب، مسرا بذلك بعض الأسرار، إعلاما بما كان من حال هذا الدين في أول الأمر، برهانا على حسن هذا التأكيد: " أشهد " أي أعلم علما قطعيا أني في مريد بصري كالناظر إلي محسوس هو في غاية الجلاء: " ألا إله إلا الله ". ولما كان المقام كما مضى شديد الاقتضاء للتأكيد قال ثانيا: " أشهد ألا إله إلا الله ".
" فلما أخذ المقام حظه من التأكيد، ولم يحتج إلى مزيد، فتلقى ذلك بالقبول العبيد، فثبتت رسالة الذي أتى بهذا الدين، وجاهد به الجاحدين، حتى قهرهم وحده صاغرين أجمعين، قال على طريق النتائج المسلمة: " أشهد أن محمدا " - ذاكرا أشهر أسمائه وأطيبها وأظهرها - " رسول الله "، مخصصا وصف الرسالة الذي هو بين الحق والخلق، لأن المقام داع إليه، ومقصور عليه، ثم أتبع ذلك ما اقتضاه الحال من تأكيده في تعظيمه وتمجيده فقال:
" أشهد أن محمدا رسول الله ". فلما أخذا المقام حظه من التأكيد للإعلام، بما كان فيه للإسلام من الشدائد والآلام، أتبعه ما اقتضاه الحال، من رفع الصوت بهذا المقال مشيرا مع ذلك إلى أن باطن الدين وظاهره سواء. ليس فيه حقيقة تخالف شريعة، وخاصة أن المتشرع به يجب