ومثاله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوات الثلاث لأمته وهي: ألا يظهر عليهم عدو من غيرهم، وألا يهلكهم بالسنين، فأعطيهما ودعا بألا يجعل بأسهم بينهم، فاستجيب في الاثنتين ولم يتسجب له في الثالثة، وقيل له: هذا أمر قدرته أي أنفذته (1)، فكانت الاثنتان من القدر الذي قدره الله تعالى وقدر ألا ينفذه بسبب الدعاء وكانت دعوته الثالثة من القدر الذي قدره الله تعالى وقدر إنفاذه على كل الأحوال لا يرده راد. وسيأتي لهذا مزيد إيضاح.
" فلأجل ما ركب في موسى عليه الصلاة والسلام من اللطف والرحمة بالأمة طمع لعل أن يكون ما اتفق لأمته من القدر الذي قدره الله تعالى وقدر ارتفاعه بسبب الدعاء والتضرع.
وهذا وقت يرجى فيه التعطف والإحسان من الله تعالى لأنه وقد أسري فيه بالحبيب ليخلع عليه خلع القرب والفضل العميم، فطمع الكليم لعل أن يلحق لأمته نصيبا ".
وبوجه آخر وهو البشارة للنبي صلى الله عليه وسلم وإدخال السرور عليه يشهد لذلك بكاؤه حين ولى النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يبعد عند لكي يسمعه، لأنه لو كان البكاء خاصا بموسى لم يكن ليبكي حتى يبعد عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمعه لأن البكاء والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع، فيه شئ من التهوين عليه.
فلما أن كان المراد بذلك ما يصدر عن البشارة له صلى الله عليه وسلم بسبب البكاء بكى والنبي صلى الله عليه وسلم يسمعه، والبشارة التي يتضمنها البكاء هي قول موسى عليه الصلاة والسلام للذي هو أكثر الأنبياء اتباعا: " إن الذي يدخل الجنة من أمة محمد أكثر ممن يدخلها من أمتي ".
" وقد وقع من موسى عليه السلام من العناية بهذه الأمة في أمر الصلاة ما لم يقع لغيره ووقعت الإشارة لذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، موفوعا: (كان موسى أشدهم علي حين مررت به وخيرهم حين رجعت إليه). وفي حديث أبي سعيد: فأقبلت راجعا فمررت بموسى ونعم الصاحب كان لكم).
التنبيه الرابع والأربعون: قول موسى عليه الصلاة والسلام: (لان غلاما...) ليس على سبيل النقص بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظيم كرمه، إذ أعطى نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك السن ما لم يعطه أحدا قبله ممن هو أسن منه.
وقال الخطابي: العرب تسمي الرجل المستجمع السن: غلاما ما دامت فيه بقية من القوة (في الكهولة) وقال ابن أبي جمرة: العرب إنما يطلقون على المرء غلاما إذا كان سيدا فيهم. فلأجل ما في هذا اللفظ من الاختصاص على غيره من ألفاظ الأفضلية ذكره موسى دون غيره تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: ويظهر أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله