نعمة الله تعالى بذلك أو استبشارا به، وقد علموا أن بشرا لا يترقى هذا الترقي إلا بإذن الله تعالى وأن جبريل لا يصعد بمن لا يرسل إليه. وقول الخازن: (من معك؟) يشعر أنهم أحسوا معه برفيق وإلا لكان السؤال: (أمعك أحد؟) وذلك الاحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة، وإما لأمر معنوي بزيادة أنوار، ولزم من البعث إليه صلى الله عليه وسلم الاذن في إزالة الموانع وفتح أبواب السماء. ولم يتوقف الخازن على أن يوحى إليه بالفتح، لأنه لزم عنده من البعث الاذن، وفي قول الخازن: (مرحبا به) إلى آخره ما يدل على أن الحاشية إذا فهموا من سيدهم عزما لاكرام وافد أن يبشروه بذلك وإن لم يأذن لهم فيه، ولا يكون في ذلك إفشاء للسر، لان الخازن أعلم النبي صلى الله عليه وسلم حال استدعائه أنه استدعاء إكرام وإعظام، فعجل بالبشرى والفراسة الصادقة عند أهلها وفي محلها يحصل (بها) العلم كما يحصله الوحي، ولم يخاطبه الخازن بصيغة الخطاب فيقول: (مرحبا بك) وإنما أراد التحية بصيغة الغيبة، والسر في ذلك أنه حياه قبل أن يفتح الباب وقبل أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم خطاب، ولهذا قال الملك لجبريل: (ومن معك؟) فخاطبه بصيغة الخطاب، لان جبريل خاطب الملك، فارتفع حكم الغيبة بالتخاطب من الجانبين، ويجوز أن يكون حياه بغير صيغة الخطاب تعظيما له لان هاء الغيبة ربما كانت أفخم من كاف الخطاب.
التنبيه الرابع والثلاثون: قول جبريل حين سئل: (من معه) فقال: (محمد)، دليل على أن الاسم أرفع من الكنية لأنه أخبر باسمه ولم يخبر بكنيته، وهو عليه الصلاة والسلام مشهور في العالمين العلوي والسفلي، فلو ك أنت الكنية أشرف من الاسم لاخبر بها.
التنبيه الخامس والثلاثون: قال ابن أبي جمرة: (استفهام الملائكة): (وقد أرسل إليه؟) دليل على أن أهل العالم العلوي يعرفون رسالته ومكانته لانهم سألوا عن وقتها: هل جاء؟ لا عنها، ولذلك أجابوا بقولهم: (مرحبا ونعم المجئ جاء) وكلامهم بهذه الصيغة أدل دليل على ما ذكرناه من معرفتهم بجلالة مكانته وتحقيق رسالته لان هذا أجل ما يكون من حسن الخطاب، والترفيع على المعروف من عادة العرب. وقد قال العلماء في معنى قوله تعالى:
(لقد رأى من آيات ربه الكبرى) (النجم: 18) إنه رأى صورة ذاته المباركة في الملكوت فإذا هو عروس المملكة).
التنبيه السادس والثلاثون: وقع في رواية أنس ومن رواية أبي ذر رضي الله عنهما:
(قلت لجبريل: من هذا؟ قال: أبوك آدم). وظاهره أنه سأل عنه بعد أن قال له آدم: (مرحبا).
ورواية مالك بن صعصعة بعكس ذلك، وهي المعتمدة، فتحمل هذه عليها، وليس في رواية أبي ذر ترتيب، وفي قول آدم: (مرحبا بالابن الصالح)، إشارة إلى افتخاره بأبوته للنبي صلى الله عليه وسلم.