وقيل: بعدا للقوم الظالمين فإنما القائل هو الله عز اسمه والقوم الظالمون هم المقضى عليهم بالعذاب، ولو قيل: قضى الامر فإنما القاضي هو الله سبحانه، والامر هو ما وعده نوحا ونهاه ان يراجعه في ذلك وهو انهم مغرقون، ولو قيل للسماء: اقلعي بعد ما قيل للأرض: ابلعي ماءك فإنما يراد اقلاعها وامساكها ماءها.
ففي الآية الكريمة اجتماع عجيب من أسباب الايجاز وتوافق لطيف فيما بينها كما أن الآية واقفة على موقف عجيب من بلاغة القرآن المعجزة يبهر العقول ويدهش الألباب وان كانت الآيات القرآنية كلها معجزة في بلاغتها.
وقد اهتم بأمرها رجال البلاغة وعلماء البيان فغاصوا لجي بحرها واخرجوا ما استطاعوا نيله من لئاليها، وما هو - وقد اعترفوا بذلك - الا كغرفة من بحر أو حصاة من بر.
قوله تعالى: (ونادى نوح ربه فقال رب ان ابني من أهلي وان وعدك الحق وأنت احكم الحاكمين) دعاء نوح عليه السلام لابنه الذي تخلف عن ركوب السفينة وقد كان آخر عهده به يوم ركب السفينة فوجده في معزل فناداه وأمره بركوب السفينة فلم يأتمر ثم حال بينهما الموج فوجد نوح عليه السلام وهو يرى أنه مؤمن بالله من أهله وقد وعده الله بإنجاء أهله.
ولما به من الوجد والحزن رفع صوته بالدعاء كما يدل عليه قوله تعالى:
(ونادى نوح ربه) ولم يقل: سأل أو قال أو دعا، ورفع الصوت بالاستغاثة من المضطر الذي اشتد به الضر وهاج به الوجد أمر طبعي. والدعاء أعني نداء نوح عليه السلام ربه في ابنه وان ذكر في القصة بعد ذكر انجاز غرق القوم وظاهره كون النداء بعد تمام الامر واستواء الفلك لكن مقتضى ظاهر الحال ان يكون النداء بعد حيلولة الموج بينهما وعلى هذا فذكره بعد ذكر انقضاء الطوفان انما هو لمكان العناية ببيان جميع ما في القصة من الهيئة الهائلة في محل واحد لتكميل تمثيل الواقعة ثم الاخذ ببيان بعض جهاته الباقية.
وقد كان عليه السلام رسولا أحد الأنبياء أولى العزم عالما بالله عارفا بمقام ربه بصيرا بموقف نفسه في العبودية، والظرف ظهرت فيه آية الربوبية والقهر الإلهي