فقضاء الامر كما يقال على جعل الحكم واصداره كذلك يقال على امضائه وانفاذه وتحقيقه في الخارج، غير أن القضاء الإلهي والحكم الربوبي الذي هو عين الوجود الخارجي جعله وانفاذه واحد، وانما الاختلاف بحسب التعبير.
وقوله: (واستوت على الجودي) أي استقرت السفينة على الجبل أو على جبل الجودي المعهود، وهو اخبار عن اختتام ما كان يلقاه نوح ومن معه من أمر الطوفان.
و قوله: (وقيل بعدا للقوم الظالمين) أي قال الله عز اسمه: بعدا للقوم الظالمين أي ليبعدوا بعدا فأبعدهم بذلك من رحمته وطردهم عن دار كرامته، والكلام في ترك ذكر فاعل (قيل) ههنا كالكلام فيه في (قيل) السابق.
والامر أيضا في قوله: (بعدا للقوم الظالمين) كالأمرين السابقين: (يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) تكويني فهو عين ما أنفذه الله فيهم من الغرق المؤدى إلى خزيهم في الدنيا وخسرانهم في الآخرة، وان كان من وجه آخر من جنس الامر التشريعي لتفرعه على مخالفتهم الامر الإلهي بالايمان والعمل، وكونه جزاء لهم على استكبارهم واستعلائهم على الله عز وجل.
وللصفح عن ذكر الفواعل في قوله: (وقيل يا أرض) الخ، وقوله: (وقضى الامر) وقوله: (وقيل بعدا) الخ، في الآية وجه آخر مشترك وهو أن هذه الأمور العظيمة الهائلة المدهشة لن يقدر عليها إلا الواحد القاهر الذي لا شريك له في أمره فلا يذهب الوهم إلى غيره لو لم يذكر على فعله فما هو إلا فعله ذكر أم لم يذكر.
ولمثل هذه النكتة حذف فاعل (غيض الماء) وهو الأرض، وفاعل (استوت على الجودي) وهو السفينة، ولم يعين القوم الظالمون بأنهم قوم نوح، ولا الناجون بأنهم نوح عليه السلام ومن معه في السفينة فإن الآية بلغت في بلاغتها العجيبة من حيث سياق القصة مبلغا ليس فيه الا سماء تنزل أمطارها، وارض انفجرت بعيونها وانغمرت بالماء وسفينة تجرى في امواجه، وامر مقضى، وقوم ظالمون هم قوم نوح وامر الهى بوعد القوم بالهلاك فلو غيض الماء فإنما تغيضه الأرض، ولو استقر شئ واستوى فإنما هي السفينة تستقر على الأرض كما أنه لو قيل: يا ارض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي