فالكلام على الكناية.
وأعدل الوجوه آخرها وهى جميعا سخيفة ظاهرة السخافة. والوجه ما قدمناه.
قوله تعالى: (أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) اما خسرانهم فإن الانسان لا يملك بالحقيقة - وذلك بتمليك من الله تعالى - إلا نفسه وإذا اشترى لنفسه ما فيه هلاكها وضيعتها بالكفر والمعصية فقد خسر في هذه المعاملة التي أقدم عليها نفسه فخسران النفس كناية عن الهلاك، وأما ضلال ما كانوا يفترون فإنه كان كذبا وافتراء ليس له وجود في الخارج من اوهامهم ومزاعمهم التي زينتها لهم الأهواء والهوسات الدنيوية وبانطواء بساط الحياة الدنيا يزول وينمحي تلك الأوهام ويضل ما لاح واستقر فيها من الكذب والافتراء ويومئذ يعلمون ان الله هو الحق المبين، ويبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.
قوله تعالى: (لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون) عن الفراء: أن (لا جرم) في الأصل بمعنى لا بد ولا محالة ثم كثرت فحولت إلى معنى القسم وصارت بمعنى (حقا) ولهذا تجاب باللام نحو لا جرم لأفعلن كذا. انتهى، وقد ذكروا أن (جرم) بفتحتين بمعنى القطع فلعلها كانت في الأصل تستعمل في نتائج الكلام كلفظة (لا محالة) وتفيد أنه لا يقطع هذا القول قاطع إن كذا كذا كما يتصور نظير المعنى في (لا محالة) فمعنى الآية على هذا: حقا إنهم في الآخرة هم الأخسرون.
ووجه كونهم في الآخرة هم الأخسرين إن فرض أنهم أخسر بالنسبة إلى غيرهم من أهل المعاصي هو أنهم خسروا أنفسهم بإهلاكها وإضاعتها بالكفر والعناد فلا مطمع في نجاتهم من النار في الآخرة كما لا مطمع في أن يفوزوا في الدنيا ويسعدوا بالايمان ما داموا على العناد، قال تعالى: (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) الانعام: 12. وقال تعالى في هؤلاء المختوم على سمعهم وأبصارهم وقلوبهم: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) يس: 10. وقال أيضا في سبب عدم إمكان إيمانهم:
(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله) الجاثية: 23.