قوله تعالى: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) الآن بالمد أصله آلآن أي أتؤمن بالله الان وهو حين أدركك العذاب ولا إيمان وتوبة حين غشيان العذاب ومجئ الموت من كل مكان، وقد عصيت قبل هذا وكنت من المفسدين، وأفنيت أيامك في معصيته، ولم تقدم التوبة لوقتها فما ذا ينفعك الايمان بعد فوت وقته وهذا هو الذي كان موسى وهارون سألاه ربهما ان يأخذه بعذاب أليم ويسد سبيله إلى الايمان إلا حين يغشاه العذاب فلا ينفعه الايمان ولا تغنى عنه التوبة شيئا.
قوله تعالى: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) التنجية والانجاء تفعيل وإفعال من النجاة كالتخليص الاخلاص من الخلاص وزنا ومعنى.
وتنجيته ببدنه تدل على أن له أمرا آخر وراء البدن فقده بدنه بغشيان العذاب وهو النفس التي تسمى أيضا روحا، وهذه النفس المأخوذة هي التي يتوفاها الله ويأخذها حين موتها كما قال تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) الزمر: 42، وقال: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) ألم السجدة: 11، وهى التي يخبر عنها الانسان بقوله: (أنا) وهى التي بها تتحقق للانسان إنسانيته، وهى التي تدرك وتريد وتفعل الافعال الانسانية بواسطة البدن بما له من القوى والأعضاء المادية، وليس للبدن إلا أنه آلة وأداة تعمل بها النفس أعمالها المادية.
ولمكان الاتحاد الذي بينها وبين البدن يسمى باسمها البدن وإلا فأسماء الاشخاص في الحقيقة لنفوسهم لا لأبدانهم، وناهيك في ذلك التغير المستمر الذي يعرض البدن مدة الحياة، والتبدل الطبيعي الذي يطرء عليه حينا بعد حين حتى ربما تبدل البدن بجميع أجزائه إلى أجزاء أخر تتركب بدنا آخر فلو كان زيد هو البدن الذي ولدته امه يوم ولدته والاسم له لكان غيره وهو ذو سبعين وثمانين قطعا والاسم لغيره حتما، ولم يثب ولم يعاقب الانسان وهو شائب على ما عمله وهو شاب لان الطاعة والمعصية لغيره.
فهذه وأمثالها شواهد قطعية على أن إنسانية الانسان بنفسه دون بدنه، والأسماء للنفوس لا للأبدان يدركها الانسان ويعرفها إجمالا وإن كان ربما أنكرها