هذا النوع من الخطاب كما يصح أن يخاطب من يجوز عليه الريب والشك كذلك يصح أن يخاطب به من هو على يقين من القول وبينة من الامر على نحو التكنية عن كون المعنى الذي أخبر به المخبر مما تعاضدت عليه الحجج وتجمعت عليه الآيات فان فرض من المخاطب أو السامع شك في واحدة منها كان له ان يأخذ بالأخرى.
وهذه طريقة شائعة في عرف التخاطب والتفاهم يأخذ بها العقلاء فيما بينهم جريا على ما تدعوهم إليه قرائحهم ترى الواحد منهم يقيم الحجة على أمر من الأمور ثم يقول: فان شككت في ذلك أو سلمنا أنها لا توجب المطلوب فهناك حجة أخرى على ذلك وهى أن كذا كذا، وذلك كناية عن أن الحجج متوفرة متعاضدة كالدعائم المضروبة على ما لا يحتاج إلى أزيد من واحد منها لكن الغرض من تكثيرها هو أن تكون العريشة قائمة عليها على تقدير قيام الكل والبعض.
فيؤل معنى الكلام إلى أن هذه معارف بينها الله لك بحجج تضطر العقول إلى قبولها وقصص تحكى سنة الله في خلقه والآثار تدل عليها، بينها في كتاب لا ريب فيه، فعلى ما بينه حجة وهناك حجة أخرى وهى أن أهل الكتب السماوية الموفين لها حق قراءتها يجدون ذلك فيما يقرءونه من الكتاب فهناك مبدء ومعاد، وهناك دين الهى بعث به رسله يدعون إليه، ولم يدعوا أمة من الأمم إلا انقسموا قبيلين مؤمن ومكذب فأنزل الله آية فاصلة بين الحق والباطل وقضى بينهم.
وهذا أمر لا يسع أهل الكتاب أن ينكروه، وإنما كانوا ينكرون بشارات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض ما يختص به الاسلام من المعارف وما غيروه في الكتب من الجزئيات، ومن لطيف الإشارة أن الله سبحانه لم يذكر في القصص المذكورة في هذه السورة قصة هود وصالح لعدم تعرض التوراة الموجودة عندهم لقصتهما وكذا قصة شعيب وقصة المسيح لعدم توافق أهل الكتاب عليها وليس إلا لمكان أن يستشهد في هذه الآية بما لا يمتنعون من تصديقه.
فهذه الآية في القاء الحجة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزانها وزان قوله تعالى: (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) الشعراء: 197 في القاء الحجة إلى الناس.
على أن السورة من أوائل السور النازلة بمكة، ولم تشتد الخصومة يومئذ بين