فقال: (ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل).
أقول: قد فصلنا القول في ما يسمى عالم الذر في تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) الآية. وأوضحنا هناك أن آيات الذر تثبت عالما إنسانيا آخر غير هذا العالم الانساني المادي التدريجي المشوب بالآلام والمصائب والمعاصي والاثام المشهود لنا من طريق الحس.
وهو مقارن لهذا العالم المحسوس نوعا من المقارنة لكنه غير محكوم بهذه الأحكام المادية، وليس تقدمه على عالمنا هذا تقدما بالزمان بل بنوع آخر من التقدم نظير التقدم المستفاد من قوله: (أن يقول له كن فيكون) يس: 82 فإن (كن) و (يكون) يحكيان عن مصداق واحد وهو وجود الشئ خارجا لكن هذا الوجود بعينه بوجهه الذي إلى الله متقدم عليه بوجهه الاخر، وهو بوجهه الرباني غير تدريجي ولا زماني ولا غائب عن ربه ولا منقطع عنه بخلاف وجهه إلى الخلق على التفصيل الذي تقدم هناك.
والذي أوردناه من الرواية في هذا البحث الروائي تشير إلى عالم الذر كالذي مرت سابقا غير أنها تختص بمزية وهى ما فيها من لطيف التعبير بالظلال فإن بإجادة التأمل في هذا التعبير يتضح المراد أحسن الاتضاح فإن في الأشياء الكونية أمورا هي كالظلال في أنها لازمة لها حاكية لخصوصيات وجودها، وآثار وجودها ومع ذلك فهى هي وليست هي.
فإنا إذا نظرنا إلى الأشياء وجردنا النظر ومحضناه في كونها صنع الله وفعله المحض غير المنفك منه ولا المنفصل عنه - وهى نظرة حقة واقعية - لم يتحقق فيها إلا التسليم لله والخضوع لإرادته والتذلل لكبريائه والتعلق برحمته وأمر ربوبيته والايمان بوحدانيته وبما أرسل به رسله وأنزله إليهم من دينه.
وهذه الوجودات ظلال - أشياء وليست بأشياء - إذا قيست إلى وجودات الأشياء المادية، وأخذ العالم المادي أصلا مقيسا إليه وهو الذي بنت عليه الآيات من جهة كون غرضها بيان ثبوت التكليف بالتوحيد تكليفا لا محيص عنه مسؤولا عنه يوم القيامة.