وذلك لما نشاهده في كثير من الحيوانات وخاصة الحيوانات الأهلية من آثار التردد في بعض الموارد المقرونة بالموانع من الفعل وكذا الكف عن الفعل بزجر أو إخافة أو تربية، فجميع ذلك يدل على أن في نفوسها صلاحية الحكم بلزوم الفعل والترك، وهو الملاك في أصل الاختيار وإن كان التروي ضعيفا فيها جدا غير بالغ حد ما نجده في الانسان المتوسط.
وإذا صح أن الحيوان غير الانسان لا يخلو عن معنى الاختيار في الجملة وإن كان ضعيفا فمن الجائز أن يجعل الله سبحانه المتوسط من مراتب الاختيار الموجودة فيها ملاكا لتكاليف مناسبة لها خاصة بها لا نحيط بها، أو يعاملها بما لها من موهبة الاختيار بنحو آخر لا معرفة لنا به إلا أنه فيها بنحو يصحح الانعام عليها عند الموافقة، ومؤاخذتها والانتقام منها عند المخالفة بما الله سبحانه أعلم به.
وقوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) جملة معترضة، وظاهرها أن المفرط فيه هو الكتاب، لفظ (من شئ) بيان للفرط الذي يقع التفريط به، والمعنى لا يوجد شئ تجب رعاية حاله والقيام بواجب حقه وبيان نعته في الكتاب إلا وقد فعل من غير تفريط، فالكتاب تام كامل.
والمراد بالكتاب إن كان هو اللوح المحفوظ الذي يسميه الله سبحانه في موارد من كلامه كتابا مكتوبا فيه كل شئ مما كان وما يكون وما هو كائن، كان المعنى أن هذه النظامات الأممية المماثلة لنظام الانسانية كان من الواجب في عناية الله سبحانه أن يبنى عليها خلقه الأنواع الحيوانية فلا يعود خلقها عبثا ولا يذهب وجودها سدى، ولا تكون هذه الأنواع بمقدار ما لها من لياقة القبول ممنوعة من موهبة الكمال.
فالآية على هذا تفيد بنحو الخصوص ما يفيده بنحو العموم، قوله تعالى: (وما كان عطاء ربك محظورا) (الاسراء: 20)، وقوله: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم) (هود: 56).
وإن كان هو القرآن الكريم وقد سما الله كتابا في مواضع من كلامه، كان المعنى أن القرآن المجيد لما كان كتاب هداية يهدى إلى صراط مستقيم على أساس بيان حقائق المعارف التي لا غنى عن بيانها في الارشاد إلى صريح الحق ومحض الحقيقة لم يفرط فيه في