ويؤيده ظاهر قوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) (النحل: 61) فإن ظاهره أن ظلم الناس لو استوجب المؤاخذة الإلهية كان ذلك لأنه ظلم والظلم شائع بين كل ما يسمى دابة:
الانسان وسائر الحيوانات فكان ذلك مستعقبا لان يهلك الله تعالى كل دابة على ظهرها هذا وإن ذكر بعضهم: أن المراد بالدابة في الآية خصوص الانسان.
ولا يلزم من شمول الاخذ والانتقام يوم القيامة لسائر الحيوان أن يساوى الانسان في الشعور والإرادة ويرقى الحيوان العجم إلى درجة الانسان في نفسياته وروحياته، والضرورة تدفع ذلك، والآثار البارزة منها ومن الانسان تبطله.
وذلك أن مجرد الاشتراك في الاخذ والانتقام والحساب والاجر بين الانسان وغيره لا يقضى بالمعادلة والمساواة من جميع الجهات كما لا يقتضى الاشتراك في ما هو أقرب من ذلك بين أفراد الانسان أنفسهم أن يجرى حساب أعمالهم من حيث المداقة والمناقشة مجرى واحدا فيوقف العاقل والسفيه والرشيد والمستضعف في موقف واحد.
على أنه تعالى ذكر من بعض الحيوان من لطائف الفهم ودقائق النباهة ما ليس بكل البعيد من مستوى الانسان المتوسط الحال في الفقه والتعقل كالذي حكى عن نملة سليمان بقوله: (حتى إذا أتوا على وادى النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) (النمل: 18) وما حكاه من قول هدهد له عليه السلام في قصة غيبته عنه: (فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين، إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون) إلى آخر الآيات (النمل: 24) فإن الباحث النبيه إذا تدبر هذا الآيات بما يظهر منها من آثار الفهم والشعور لها ثم قدر زنته لم يشك في أن تحقق هذا المقدار من الفهم والشعور يتوقف على معارف جمة وإدراكات متنوعة كثيرة من بساط المعاني ومركباتها.
وربما أيد ذلك ما حصله أصحاب معرفة الحيوان بعميق مطالعاتهم وتربياتهم لأنواع الحيوان المختلفة من عجائب الأحوال التي لا تكاد تظهر إلا من موجود ذي إرادة لطيفة وفكر عميق وشعور حاد.