وأما لو تميز من أول الامر أراده ففعله من غير مهل ولم يحتج إلى ترو أصلا فالانسان يختار ما يرى نفعه بترو أو من غير ترو ولا تروى إلا لرفع الموانع عن الحكم.
ثم إنك إذا تأملت حال أفراد الانسان المختارين في أفعالهم وجدتهم ذوي اختلاف شديد في مبادى اختيارهم أعني الصفات الروحية والأحوال الباطنية من شجاعة وجبن وعفة وشره ونشاط وكسل ووقار وخفة، وكذا في قوة التعقل وضعفه وإصابة النظر وخطائه فكثيرا ما يرى الشره نفسه مضطرة مسلوبة الاختيار في موارد يشتهى الانهماك فيها لا يعبأ بأمرها العفيف المتطهر، وربما يرى الجبان أدنى أذى يصيبه في مهمة أو مقتلة عذرا لنفسه ينفى عنه الاختيار، ولا يرى الشجاع الباسل الابى عن الضيم الموت الأحمر وأي زجر بدني أمرا فوق الطاقة، ولا يرى لأي مصيبة هائلة في سبيل مقاصده من بأس، وربما اختار السفيه خفيف العقل بأدنى تصور واه، ولا يرى العاقل اللبيب ترجيح الفعل بأمثال تلك المرجحات إلا تلهيا ولعبا، وأفعال الصبيان غير المميزين اختيارية معها بعض التروي ولا يعبأ بها وبأمرها البالغ الرشيد، وكثيرا ما نعد في محاوراتنا فعلا من أفعالنا اضطراريا أو إجباريا إذا قارن إعذارا اجتماعية غير ملزمة بحسب الحقيقة كشارب الدخان يعتذر بالعادة، والنومة يعتذر بالكسل والسارق أو الخائن يعتذر بالفقر.
وهذا الاختلاف الفاحش في مبادى الاختيار وأسبابه والعرض العريض في مستوى الأفعال الاختيارية هو الذي بعث الدين وسائر السنن الاجتماعية أن يحدوا الفعل الاختياري بما يراه المتوسط من أفراد المجتمع الانساني اختياريا، ويبنوا على ذلك صحة تعلق الأمر والنهي والعقاب والثواب ونفوذ التصرف وغير ذلك، ويعذروا من لم يتحقق فيه ما يتحقق في الفعل الاختياري الذي يأتي به الانسان المتوسط من المبادى والأسباب، وهو المتوسط من الاستطاعة والفهم.
فهذا الوسط المعدود اختيارا النافي لاختيارية ما دونه إنما هو كذلك بحسب الحكم الديني أو الاجتماعي المراعى فيه مصلحة الدين أو الاجتماع وإن كان الامر بحسب النظر التكويني أوسع من ذلك.
والامعان فيما تقدم يعطى أن يجزم بأن الحيوان غير الانسان غير محروم من موهبة الاختيار في الجملة وإن كان أضعف مما نجده في المتوسط من الناس من معنى الاختيار