وربما قيل: إن قوله: طوعت بمعنى زينت فقوله: " قتل أخيه " مفعول به، وقيل: بمعنى طاوعت أي طاوعت له نفسه في قتل أخيه، فالقتل منصوب بنزع الخافض، ومعنى الآية ظاهر.
وربما استفيد من قوله: " فأصبح من الخاسرين " أنه إنما قتله ليلا، وفيه كما قيل:
أن أصبح - وهو مقابل أمسى - وإن كان بحسب أصل معناه يفيد ذلك لكن عرف العرب يستعمله بمعنى صار من غير رعاية أصل اشتقاقه، وفي القرآن شئ كثير من هذا القبيل كقوله: " فأصبحتم بنعمته إخوانا " (آل عمران: 103) وقوله: " فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين " (المائدة: 52) فلا سبيل إلى إثبات إرادة المعنى الأصلي في المقام.
قوله تعالى: " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه " البحث طلب الشئ في التراب ثم يقال: بحثت عن الامر بحثا كذا في المجمع. والمواراة:
الستر، ومنه التواري للتستر، والوراء لما خلف الشئ. والسوأة ما يتكرهه الانسان.
والويل الهلاك. ويا ويلتا كلمة تقال عند الهلكة، والعجز مقابل الاستطاعة.
والآية بسياقها تدل على أن القاتل قد كان بقى زمانا على تحير من أمره، وكان يحذر أن يعلم به غيره، ولا يدرى كيف الحيلة إلى أن لا يظفروا بجسده حتى بعث الله الغراب، ولو كان بعث الغراب وبحثه وقتله أخاه متقاربين لم يكن وجه لقوله: " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب.
و كذا المستفاد من السياق أن الغراب دفن شيئا في الأرض بعد البحث فإن ظاهر الكلام أن الغراب أراد إراءة كيفية، المواراة لا كيفية البحث، ومجرد البحث ما كان يعلمه كيفية المواراة وهو في سذاجة الفهم بحيث لم ينتقل ذهنه بعد إلى معنى البحث، فكيف كان ينتقل من البحث إلى المواراة ولا تلازم بينهما بوجه؟ فإنما انتقل إلى معنى المواراة بما رأى أن الغراب بحث في الأرض ثم دفن فيها شيئا.
والغراب من بين الطير من عادته أنه يدخر بعض ما اصطاده لنفسه بدفنه في الأرض، وبعض ما يقتات بالحب ونحوه من الطير وإن كان ربما بحث في الأرض لكنه للحصول على مثل الحبوب والديدان لا للدفن والادخار.
وما تقدم من إرجاع ضمير الفاعل في " ليريه " إلى الغراب هو الظاهر من الكلام