قوله تعالى: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت صدورهم) استثنى الله سبحانه من قوله (فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم) طائفتين: (إحداهما) الذين يصلون (الخ) أي بينهم وبين بعض أهل الميثاق ما يوصلهم بهم من حلف ونحوه، و (الثانية) الذين يتحرجون من مقاتلة المسلمين ومقاتلة قومهم لقتلهم أو لعوامل أخر، فيعتزلون المؤمنين ويلقون إليهم السلم لا للمؤمنين ولا عليهم بوجه، فهاتان الطائفتان مستثنون من الحكم المذكور، وقوله (حصرت صدورهم) أي ضاقت.
قوله تعالى: (ستجدون آخرين) إخبار بأنه سيواجهكم قوم آخرون ربما شابهوا الطائفة الثانية من الطائفتين المستثناتين حيث إنهم يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم غير أن الله سبحانه يخبر أنهم منافقون غير مأمونين في مواعدتهم وموادعتهم، ولذا بدل الشرطين المثبتين في حق غيرهم أعني قوله (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم) بالشرط المنفى أعني قوله (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم) (الخ) وهذا في معنى تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر منهم، ومعنى الآية ظاهر.
(كلام في معنى التحية) الأمم والأقوام على اختلافها في الحضارة والتوحش والتقدم والتأخر لا تخلو في مجتمعاتهم من تحية يتعارفونها عند الملاقاة ملاقاة البعض البعض على أقسامها وأنواعها من الإشارة بالرأس واليد ورفع القلانس وغير ذلك، وهى مختلفة باختلاف العوامل المختلفة العاملة في مجتمعاتهم.
وأنت إذا تأملت هذه التحيات الدائرة بين الأمم على اختلافها وعلى اختلافهم وجدتها حاكية مشيرة إلى نوع من الخضوع والهوان والتذلل يبديه الدانى للعالي، والوضيع للشريف، والمطيع لمطاعه، والعبد لمولاه، وبالجملة تكشف عن رسم الاستعباد الذي لم يزل رائجا بين الأمم في أعصار الهمجية فما دونها، وإن اختلفت ألوانه، ولذلك ما نرى ان هذه التحية تبدء من المطيع وتنتهى إلى المطاع، وتشرع من الدانى الوضيع وتختتم في العالي الشريف، فهى من ثمرات الوثنية التي ترتضع من ثدي الاستعباد.
والاسلام - كما تعلم - أكبر همه إمحاء الوثنية وكل رسم من الرسوم ينتهى إليها،