وأما قوله (وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك) ففيه نفى إضرارهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفيا مطلقا غير أن ظاهر السياق أنه مقيد بقوله (وأنزل الله عليك الكتاب) على أن يكون جملة حالية عن الضمير في قوله (يضرونك) وإن كان الأغلب مقارنة الجملة الفعلية المصدرة بالماضي بقد على ما ذكره النحاة وعلى هذا فالكلام مسوق لنفى إضرار الناس مطلقا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في علم أو عمل.
قوله تعالى: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم)، ظاهر الكلام كما أشرنا إليه انه في مقام التعليل لقوله (وما يضرونك من شئ) أو لمجموع قوله (وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ) وكيف كان فهذا الانزال والتعليم هو المانع من تأثيرهم في إضلاله صلى الله عليه وآله وسلم فهو الملاك في عصمته.
(كلام في معنى العصمة) ظاهر الآية ان الامر الذي تتحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية والخطأ وبعبارة أخرى علم مانع عن الضلال، كما أن سائر الأخلاق كالشجاعة والعفة والسخاء كل منها صورة علمية راسخة موجبة لتحقق آثارها، مانعة عن التلبس بأضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره والبخل والتبذير.
والعلم النافع والحكمة البالغة وإن كانا يوجبان تنزه صاحبهما عن الوقوع في مهالك الرذائل، والتلوث بأقذار المعاصي، كما نشاهده في رجال العلم والحكمة والفضلاء من أهل التقوى والدين، غير أن ذلك سبب غالبي كسائر الأسباب الموجودة في هذا العالم المادي الطبيعي فلا تكاد تجد متلبسا بكمال يحجزه كماله من النواقص ويصونه عن الخطأ صونا دائميا من غير تخلف سنة جارية في جميع الأسباب التي نراها ونشاهدها.
والوجه في ذلك أن القوى الشعورية المختلفة في الانسان يوجب بعضها ذهوله عن حكم البعض الاخر أو ضعف التفاته إليه كما أن صاحب ملكة التقوى ما دام شاعرا بفضيلة تقواه لا يميل إلى اتباع الشهوة غير المرضية ويجرى على مقتضى تقواه، غير أن اشتعال نار الشهوة وانجذاب نفسه إلى هذا النحو من الشعور ربما حجبه عن تذكر فضيلة التقوى أو ضعف شعور التقوى فلا يلبث دون أن يرتكب ما لا يرتضيه التقوى،