لما كان كل علم هداية وكل هداية فهي من الله كان كل علم للانسان بتعليمه تعالى.
ويقرب من قوله: " علم الانسان ما لم يعلم " قوله: " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة " (النحل: 78).
والتأمل في حال الانسان والتدبر في الآيات الكريمة يفيدان أن علم الانسان النظري أعني العلم بخواص الأشياء وما يستتبعه من المعارف العقلية يبتدئ من الحس فيعلمه الله من طريقه خواص الأشياء كما يدل عليه قوله: " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه " (الآية) فنسبة بعث الغراب لإراءة كيفية المواراة إلى الله سبحانه نسبة تعليم كيفية المواراة إليه تعالى بعينه فالغراب وإن كان لا يشعر بأن الله سبحانه هو الذي بعثه، وكذلك ابن آدم لم يكن يدرى أن هناك مدبرا يدبر أمر تفكيره وتعلمه، وكانت سببية الغراب وبحثه بالنسبة إلى تعلمه بحسب النظر الظاهري سببية اتفاقية كسائر الأسباب الاتفاقية التي تعلم الانسان طرق تدبير المعاش والمعاد، لكن الله سبحانه هو الذي خلق الانسان وساقه إلى كمال العلم لغاية حياته، ونظم الكون نوع نظم يؤديه إلى الاستكمال بالعلم بأنواع من التماس والتصاك تقع بينه وبين أجزاء الكون، فيتعلم بها الانسان ما يتوسل به إلى أغراضه ومقاصده من الحياة فالله سبحانه هو الذي يبعث الغراب وغيره إلى عمل يتعلم به الانسان شيئا فهو المعلم للانسان.
ولهذا المعنى نظائر في القرآن كقوله تعالى: " وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله " (المائدة: 4) عد ما علموه وعلموه مما علمهم الله وإنما تعلموه من سائر الناس أو ابتكروه بأفكار أنفسهم، وقوله: " واتقوا الله ويعلمكم الله " البقرة:
282) وإنما كانوا يتعلمونه من الرسول، وقوله: " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " (البقرة:
282) وإنما تعلم الكاتب ما علمه بالتعلم من كاتب آخر مثله إلا أن جميع ذلك أمور مقصودة في الخلق والتدبير فما حصل من هذه الأسباب من فائدة العلم الذي يستكمل به الانسان فالله سبحانه هو معلمه بهذه الأسباب كما أن المعلم من الانسان يعلم بالقول والتلقين، والكاتب من الانسان يعلم غيره بالقول والقلم مثلا.
وهذا هو السبيل في جميع ما يسند إليه تعالى في عالم الأسباب فالله تعالى هو خالقه،