لكونه هو المرجع القريب، وربما قيل: " إن الضمير راجع إلى الله سبحانه، ولا بأس به لكنه لا يخلو عن شئ من البعد، والمعنى صحيح على التقديرين، وأما قوله: " قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب "، فإنما قاله لأنه استسهل ما رأى من حيلة الغراب للمواراة فإنه وجد نفسه تقدر على إتيان مثل ما أتى به الغراب من البحث ثم التوسل به إلى المواراة لظهور الرابطة بين البحث والمواراة، وعند ذلك تأسف على ما فاته من الفائدة، وندم على إهماله في التفكر في التوسل إلى المواراة حتى يستبين له أن البحث هو الوسيلة القريبة إليه، فأظهر هذه الندامة بقوله: " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي " وهو تخاطب جار بينه وبين نفسه على طريق الاستفهام الانكاري، والتقدير أن يستفهم منكرا: أعجزت أن تكون مثل هذا الغراب فتوارى سوأة أخيك؟
فيجاب: لا ثم يستفهم ثانيا استفهاما إنكاريا فيقال: فلم غفلت عن ذلك ولم تتوسل إليها بهذه الوسيلة على ظهورها وأشقيت نفسك في هذه المدة من غير سبب؟ ولا جواب عن هذه المسألة، وفيه الندامة فإن الندامة تأثر روحي خاص من الانسان وتألم باطني يعرضه من مشاهدته إهماله شيئا من الأسباب المؤدية إلى فوت منفعة أو حدوث مضرة، وإن شئت فقل هي تأثر الانسان العارض له من تذكره إهماله في الاستفادة من إمكان من الامكانات.
وهذا حال الانسان إذا أتى من المظالم بما يكره أن يطلع عليه الناس فإن هذه أمور لا يقبلها المجتمع بنظامه الجاري فيه، المرتبط بعض أجزائه ببعض فلابد أن يظهر أثر هذه الأمور المنافية له وإن خفيت على الناس في أول حدوثها، والانسان الظالم المجرم يريد أن يجبر النظام على قبوله وليس بقابل نظير أن يأكل الانسان أو يشرب شيئا من السم وهو يريد أن يهضمه جهاز هضمه وليس بهاضم، فهو وإن أمكن وروده في باطنه لكن له موعدا لن يخلفه ومرصدا لن يتجاوزه، وإن ربك لبالمرصاد.
وعند ذلك يظهر للانسان نقص تدبيره في بعض ما كان يجب عليه مراقبته ورعايته فيندم لذلك، ولو عاد فأصلح هذا الواحد فسد آخر ولا يزال الامر على ذلك حتى يفضحه الله على رؤوس الاشهاد.
وقد اتضح بما تقدم من البيان: أن قوله: " فأصبح من النادمين " إشارة إلى ندامته على عدم مواراته سوأة أخيه، وربما أمكن أن يقال: إن المراد به ندمه على أصل القتل،