ومنهم من قرره على أن الرجوع إلى النفس بالانصراف عن الشواغل المادية يوجب انكشاف الحقائق لا بمعنى كون العلوم عند الانسان بالفعل بل هي له بالقوة وإنما الفعلية في باطن النفس الانسانية المفصولة عن الانسان عند الغفلة الموصولة به عند التذكر، وهذا ما يقول به العرفاء وأهل الاشراق وأترابهم من سائر الملل والنحل. ومنهم من قرره على نحو ما قرره العرفاء غير أنه اشتراط في ذلك التقوى واتباع الشرع علما وعملا كعدة من المسلمين ممن عاصرناهم وغيرهم زعما منهم أن اشتراط اتباع الشرع يفرق ما بينهم وبين العرفاء والمتصوفة، وقد خفى عليهم أن العرفاء سبقوهم في هذا الاشتراط كما يشهد به كتبهم المعتبرة الموجودة، فالقول عين ما قال به المتصوفة، وإنما الفرق بين الفريقين في كيفية الاتباع وتشخيص معنى التبعية، وهؤلاء يعتبرون في التبعية مرحلة الجمود على الظواهر محضا، فطريقهم طريق مولد من تناكح طريقي المتصوفة والاخبارية إلى غير ذلك من التقريرات.
والقول بالتذكر إن لم يرد به إبطال الرجوع إلى الأصول المنطقية والعقلية لا يخلو من وجه صحة في الجملة فإن الانسان حينما يوجد بهويته يوجد شاعرا بذاته وقوى ذاته وبعلله، عالما بها علما حضوريا، ومعه من القوى ما يبدل علمه الحضوري إلى علم حصولي. ولا توجد قوة هي مبدء الفعل إلا وهى تفعل فعلها فللانسان في أول وجوده شئ من العلوم وإن كانت متأخرة عنه بحسب الطبع لكنه معه بالزمان. هذا، وأيضا حصول بعض العلوم للانسان إذا انصرف عن التعلقات المادية بعض الانصراف لا يسع لاحد إنكاره.
وإن أريد بالقول بالتذكر إبطال أثر الرجوع إلى الأصول المنطقية والعقلية بمعنى أن ترتيب المقدمات البديهية المتناسبة يوجب خروج الانسان من القوة إلى الفعل بالنسبة إلى العلم بما يعد نتيجة لها، أو بمعنى أن التذكر بمعنى الرجوع إلى النفس بالتخلية يغنى الانسان عن ترتيب المقدمات العلمية لتحصيل النتائج فهو من أسخف القول الذي لا يرجع إلى محصل.
أما القول بالتذكر بمعنى إبطاله الرجوع إلى الأصول المنطقية والعقلية فيبطله أولا:
أن البحث العميق في العلوم والمعارف الانسانية يعطى أن علومه التصديقية تتوقف على علومه التصورية، والعلوم التصورية تنحصر في العلوم الحسية أو المنتزع منها بنحو من الأنحاء (1) وقد دل القياس والتجربة على أن فاقد حس من الحواس فاقد لجميع العلوم المنتهية