قياسات برهانية يراد بها إثبات ما هو الحق لا إثبات ما سلم ثبوتها تسليما، وهذا غير أن يقال إن أحد الطريقين (طريق الكلام) طريق الدين والاخر طريق مباين لطريق الدين لا يعتنى به وإن كان حقا.
وأما ما ذكره من الاشكال على المنطق والفلسفة والعرفان فما اعترض به على المنطق قد تقدم الكلام فيه، وأما ما ذكره في موضوع الفلسفة والعرفان فإن كان ما ذكره على ما ذكره وفهم منه ثم ناقض ما هو صريح الدين الحق فلا ريب لمرتاب في أنه باطل ومن هفوات الباحثين في الفلسفة أو السالكين مسلك العرفان وأغلاطهم، لكن الشأن في أن هفوات أهل فن وسقطاتهم وانحرافهم لا تحمل على عاتق الفن، وإنما يحمل على قصور الباحثين في بحثهم.
وكان عليه أن يتأمل الاختلافات الناشئة بين المتكلمين: أشعريهم ومعتزليهم وإماميهم فقد اقتسمت هذه الاختلافات الكلمة الواحدة الاسلامية فجعلتها بادء بدء ثلاثا وسبعين فرقة ثم فرقت كل فرقة إلى فرق، ولعل فروع كل أصل لا ينقص عددا من أصولها.
فليت شعري هل أوجد الاختلافات شئ غير سلوك طريق الدين؟ وهل يسع لباحث أن يستدل بذلك على بطلان الدين وفساد طريقة؟ أو يأتي ههنا بعذر لا يجرى هناك أو يرمى أولئك برذيلة معنوية لا توجد عينها أو مثلها في هؤلاء؟! ونظير فن الكلام في ذلك الفقه الاسلامي وانشعاب الشعب والطوائف فيه ثم الاختلافات الناشئة بين كل طائفة أنفسهم، وكذلك سائر العلوم والصناعات على كثرتها واختلافها.
وأما ما استنتج من جميع كلامه من بطلان جميع الطرق المعمولة وتعين طريق الكتاب والسنة وهو مسلك الدين فلا يسعه إلا أن يرى طريق التذكر وهو الذي نسب إلى أفلاطون اليوناني وهو أن الانسان لو تجرد عن الهوسات النفسانية وتحلى بحلية التقوى والفضائل الروحية ثم رجع إلى نفسه في أمر بان له الحق فيه.
هذا هو الذي ذكروه، وقد اختاره بعض القدماء من يونان وغيرهم وجمع من المسلمين وطائفة من فلاسفة الغرب، غير أن كلا من القائلين به قرره بوجه آخر:
فمنهم من قرره على أن العلوم الانسانية فطرية بمعنى أنها حاصلة له، موجودة معه بالفعل في أول وجوده، فلا جرم يرجع معنى حدوث كل علم له جديد إلى حصول التذكر.