وليس العلم وفضله أمرا محسوسا يعرفه أمة من أمة أخرى إلا أن يرتبط بالصنعة فيظهر أثره على الحس فيعرفه العامة.
وقد أيقظت هذه الفتوحات المتوالية الغزيرة العرب الجاهلية من الغرور والنخوة بعد ما كانت في سكن بالتربية النبوية، فكانت تتسرب فيهم روح الأمم المستعلية الجبارة، وتتمكن منهم رويدا، يشهد به شيوع تقسيم الأمة المسلمة يومئذ إلى العرب والموالي، وسير معاوية - وهو والى الشام يومذاك - بين المسلمين بسيرة ملوكية قيصرية، وأمور أخرى كثيرة ذكرها التاريخ عن جيوش المسلمين، وهذه نفسيات لها تأثير في السير العلمي ولا سيما التعليمات القرآنية.
وأما الذي كان عندهم من حاضر السير العلمي فالاشتغال بالقرآن كان على حاله وقد صار مصاحف متعددة تنسب إلى زيد وأبى وابن مسعود وغيرهم.
وأما الحديث فقد راج رواجا بينا وكثر النقل والضبط إلى حيث نهى عمر بعض الصحابة عن التحديث لكثرة ما روى، وقد كان عدة من أهل الكتاب دخلوا في الاسلام وأخذ عنهم المحدثون شيئا كثيرا من أخبار كتبهم وقصص أنبيائهم وأممهم، فخلطوها بما كان عندهم من الأحاديث المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذ الوضع والدس يدوران في الأحاديث، ويوجد اليوم في الأحاديث المقطوعة المنقولة عن الصحابة ورواتهم في الصدر الأول شئ كثير من ذلك يدفعه القرآن بظاهر لفظه.
وجملة السبب في ذلك أمور ثلاثة: 1 - المكانة الرفيعة التي كانت تعتقدها الناس لصحبة النبي وحفظ الحديث عنه، وكرامة الصحابة وأصحابهم النقلة عنهم على الناس، وتعظيمهم لأمرهم، فدعا ذلك الناس إلى الاخذ والاكثار (حتى عن مسلمى أهل الكتاب) والرقابة الشديدة بين حملة الحديث في حيازة التقدم والفخر.
2 - ان الحرص الشديد منهم على حفظ الحديث ونقله منعهم عن تمحيصه والتدبر في معناه وخاصة في عرضه على كتاب الله وهو الأصل الذي تبتنى عليه بنية الدين وتستمد منه فروعه، وقد وصاهم بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما صح من قوله: " ستكثر على القالة "