فالاعتراض يبطل نفسه.
ولعلنا خرجنا عما هو شريطة هذا الكتاب من إيثار الاختصار مهما أمكن فلنرجع إلى ما كنا فيه أولا:
القرآن الكريم يهدى العقول إلى استعمال ما فطرت على استعماله وسلوك ما تألفه وتعرفه بحسب طبعها وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات، والذي فطرت العقول عليه هو أن تستعمل مقدمات حقيقية يقينية لاستنتاج المعلومات التصديقية الواقعية وهو البرهان، وأن تستعمل فيما له تعلق بالعمل من سعادة وشقاوة وخير وشر ونفع وضرر وما ينبغي أن يختار ويؤثر وما لا ينبغي، وهى الأمور الاعتبارية، المقدمات المشهورة أو المسلمة، وهو الجدل، وأن تستعمل في موارد الخير والشر المظنونين مقدمات ظنية لانتاج الارشاد والهداية إلى خير مظنون، أو الردع عن شر مظنون، وهى العظة قال تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " (النحل: 125) والظاهر أن المراد بالحكمة هو البرهان كما ترشد إلى ذلك مقابلته الموعظة الحسنة والجدال.
فان قلت: طريق التفكر المنطقي مما يقوى عليه الكافر والمؤمن، ويتأتى من الفاسق والمتقي، فما معنى نفيه تعالى العلم المرضى والتذكر الصحيح عن غير أهل التقوى والاتباع كما في قوله تعالى: " وما يتذكر الا من ينيب " (غافر: 13)، وقوله: " ومن يتق الله يجعل له مخرجا " (الطلاق: 2)، وقوله: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد الا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى " (النجم: 30) والروايات الناطقة بأن العلم النافع لا ينال الا بالعمل الصالح كثيرة مستفيضة.
قلت: اعتبار الكتاب والسنة التقوى في جانب العلم مما لا ريب فيه، غير أن ذلك ليس لجعل التقوى أو التقوى الذي معه التذكر طريقا مستقلا لنيل الحقائق وراء الطريق الفكري الفطري الذي يتعاطاه الانسان تعاطيا لا مخلص له منه، إذ لو كان الامر على ذلك لغت جميع الاحتجاجات الواردة في الكتاب على الكفار والمشركين وأهل الفسق والفجور ممن لا يتبع الحق، ولا يدرى ما هو التقوى والتذكر فإنهم لا سبيل لهم على هذا الفرض إلى