وأما استعجابهم بما يرون من الصدق والصفاء والأمانة والبشر وغير ذلك فيما بين أفراد الملل المترقية فقد اختلط عليهم حقيقة الامر فيه وذلك أن جل المتفكرين من باحثينا معاشر الشرقيين لا يقدرون على التفكر الاجتماعي وإنما يتفكرون تفكرا فرديا فالذي يراه الواحد منا نصب العين أنه موجود إنساني مستقل عن كل الأشياء غير مرتبط بها ارتباطا تبطل استقلاله الوجودي مع أن الحق خلافه ثم لا يتفكر في حياته إلا لجلب المنافع إلى نفسه ودفع المضار عن نفسه فلا يشتغل إلا بشأن نفسه وهو التفكر الفردي ويستتبع ذلك أن يقيس غيره على نفسه فيقضي فيه بما يقضي على هذا النحو من الاستقلال.
وهذا القضاء إن صح فإنما يصح فيمن يجرى في تفكره هذا المجرى وأما من يتفكر تفكرا اجتماعيا ليس نصب عينيه إلا أنه جزء غير منفك ولا مستقل عن المجتمع وأن منافعه جزء من منافع مجتمعه يرى خير المجتمع خير نفسه وشره شر نفسه وكل وصف وحال له وصفا وحالا لنفسه فهذا الانسان يتفكر نحوا آخر من التفكر ولا يشتغل في الارتباط بغيره إلا بمن هو خارج عن مجتمعه وأما اشتغاله بأجزاء مجتمعه فلا يهتم به ولا يقدره شيئا.
واستوضح ذلك بما نورده من المثال الانسان مجموع مؤلف من أعضاء وقوى عديدة تجتمع الجميع نوع اجتماع يعطيها وحدة حقيقية نسميها الانسانية يوجب ذلك استهلاك الجميع ذاتا وفعلا تحت استقلاله فالعين والاذن واليد والرجل تبصر وتسمع وتبطش وتمشي للانسان وإنما يلتذ كل بفعله في ضمن التذاذ الانسان به وكل واحدة من هذه الأعضاء والقوى همها أن ترتبط بالخارج الذي يريد الانسان الواحد الارتباط به بخير أو شر فالعين أو الاذن أو اليد أو الرجل إنما تريد الاحسان أو الإساءة إلى من يريد الانسان الاحسان أو الإساءة إليه من الناس مثلا وأما معاملة بعضها مع بعض والجميع تحت لواء الانسانية الواحدة فقلما يتفق أن يسئ بعضها إلى بعض أو يتضرر بعضها ببعض.
فهذا حال أجزاء الانسان وهي تسير سيرا واحدا اجتماعيا وفي حكمه حال أفراد مجتمع إنساني إذا تفكروا تفكرا اجتماعيا فصلاحهم وتقواهم أو فسادهم وإجرامهم وإحسانهم وإسائتهم إنما هي ما لمجتمعهم من هذه الأوصاف إذا أخذ ذا شخصية واحدة.
وهكذا صنع القرآن في قضائه على الأمم والأقوام التي ألجأتهم التعصبات المذهبية