قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، ظاهره إيجاب الإفاضة على ما كان من دأب الناس والحاق المخاطبين في هذا الشأن بهم فينطبق على ما نقل ان قريشا وحلفائها وهم الحمس كانوا لا يقفون بعرفات بل بالمزدلفة وكانوا يقولون: نحن أهل حرم الله لا نفارق الحرم فأمرهم الله سبحانه بالإفاضة من حيث أفاض الناس وهو عرفات.
وعلى هذا فذكر هذا الحكم بعد قوله: فإذا أفضتم من عرفات، بثم الدالة على التأخير اعتبار للترتيب الذكري، والكلام بمنزلة الاستدراك، والمعنى ان أحكام الحج هي التي ذكرت غير أنه يجب عليكم في الإفاضة ان تفيضوا من عرفات لا من المزدلفة، وربما قيل: إن في الآيتين تقديما وتأخيرا في التأليف، والترتيب: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات.
قوله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم إلى قوله: ذكرا، دعوة إلى ذكر الله والبلاغ فيه بأن يذكره الناسك كذكره آبائه وأشد منه لان نعمته في حقه وهي نعمة الهداية كما ذكره بقوله تعالى: (واذكروه كما هديكم) أعظم من حق آبائه عليه، وقد قيل:
إن العرب كانت في الجاهلية إذا فرغت من الحج مكثت حينا في منى فكانوا يتفاخرون بالآباء بالنظم والنثر فبدله الله تعالى من ذكره كذكرهم أو أشد من ذكرهم وأو في قوله أو أشد ذكرا، للاضراب فتفيد معنى بل، وقد وصف الذكر بالشدة وهو أمر يقبل الشدة في الكيفية كما يقبل الكثرة في الكمية، قال تعالى: (واذكروا الله ذكرا كثيرا) الأحزاب - 41، وقال تعالى: (والذاكرين الله كثيرا) الأحزاب - 35، فإن الذكر بحسب الحقيقة ليس مقصورا في اللفظ، بل هو أمر يتعلق بالحضور القلبي واللفظ حاك عنه، فيمكن ان يتصف بالكثرة من حيث الموارد بأن يذكر الله سبحانه في غالب الحالات كما قال تعالى: (الذين يذكرون الله قياما وقعود أو على جنوبهم) آل عمران - 191، وإن يتصف بالشدة في مورد من الموارد، ولما كان المورد المستفاد من قوله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم، موردا يستوجب التلهي عنه تعالى ونسيانه كان الأنسب توصيف الذكر الذي أمر به فيه بالشدة دون الكثرة كما هو ظاهر.
قوله تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا (الخ) تفريع على قوله