الجنة إذا دخلوا الجنة واستدعاهم الرب سبحانه إلى زيارته ومشاهدته ومحاضرته يوم المزيد، فإنهم ينسون عند ذلك كل نعيم عاينوه في الجنة قبل ذلك، ولا يلتفتون إلى شئ مما هم فيه من نعيم الجنة حتى يحتجب عنهم سبحانه، ويحقرون كل نعيم في الجنة حين ينظرون إلى وجهه جل جلاله، كما جاء في أحاديث يوم المزيد. فلو أنهم ذكروا حينئذ بشيء من نعيم الجنة لأعرضوا عنه، ولأخبروا أنهم لا يرونه في تلك الحال، وكذلك لو خوفوا عذابا ونحوه لم يلتفتوا إليه، وربما لم يستشعروا ألمه في تلك الحال، وإنما يحذرون حينئذ من الحجاب عما هم فيه والبعد عنه، فإذا رجعوا إلى منازلهم، رجعوا إلى ما كانوا عليه من التنعم بأنواع المخلوق لهم، بل يزداد نعيمهم بذلك مع شدة شوقهم إلى يوم المزيد ثانيا.
فهكذا حال العارفين الصادقين في الدنيا إذا تجلى على قلوبهم أنوار الإحسان واستولى عليها المثل الأعلى، فإن هذا من شواهد ما يحصل لهم في الجنة يوم المزيد، فهم لا يلتفتون في تلك الحال إلى غير ما هم فيه من الأنس بالله والتنعم بقربه وذكره ومحبته، حتى ينسوا ذكر نعيم الجنة، ويصغر عندهم بالنسبة إلى ما هم فيه، ولا يخافون حينئذ أيضا غير حجبهم عن الله وبعدهم عنه وانقطاع مواد الأنس به، فإذا رجعوا إلى عقولهم، وسكنت عنهم سلطنة هذا الحال وقهره، وجدوا أنفسهم وإرادتهم باقية، فيشتاقون حينئذ إلى الجنة ويخافون من النار، مع ملاحظتهم لأعلى ما يشتاق إليه من الجنة ويخشى منه من النار.
وأيضا، فالعارفون قد يلاحظون من النار أنها ناشئة عن صفة انتقام الله وبطشه وغضبه، والأثر يدل على المؤثر، فجهنم دليل على عظمة الله وشدة بأسه وبطشه وقوة سطوته وانتقامه في أعدائه، فالخوف منها في الحقيقة خوف من الله وإجلال وإعظام وخشية لصفاته المخوفة، مع أن الله سبحانه يخوف بها عباده، ويجب منهم أن يخافوه بخوفها، وأن يخشوه بخشية الوقوع فيها، وأن يحذروه بالحذر منها، فالخائف من النار خائف من الله، متبع لما فيه محبته ورضاه والله أعلم.